خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

من وحي المعدة

من أكثر الأمثال شيوعاً في شتى البلدان: «يموت الحصان من أكل الشعير». وهي كناية عن الإفراط في الأكل ومخاطره. وهذه علة من علل الشعوب الفقيرة التي يقضي أبناؤها أياماً طويلة من الجوع، فإذا توفر الطعام انهالوا عليه بكل ما أوتوا من قدرة. وقد سمعت شخصياً عن كثير من الحكايات الحقيقية التي رويت عن أشخاص وقعوا على طعام فأكلوا وأكلوا حتى حملوهم من القصعة إلى المستشفى، بل وأذكر حكاية من حملوه من القصعة إلى المقبرة، فمن الثابت علمياً أن امتلاء المعدة بالأكل يساعد على الجلطة والسكتة القلبية. ولعل في قولنا «وقعة» إشارة إلى أكلة مفرطة.
هناك أمثلة وطرائف كثيرة رويت عن هذه الظاهرة. يكفينا منها أن نشير إلى حكايات أشعب الطماع. قالوا إنه سمع بوليمة سخية فأسرع لاصطحاب ابنه إليها. ولدى الأكل لاحظ أشعب أن ابنه كان يشرب الماء كثيراً فلكزه وهمس في أذنه مؤنباً: يا ابن كذا، تملأ معدتك بالماء وأمامك كل هذا الأكل؟ فأجابه ابنه: «يا أبتي إنما أشرب الماء لأزيح ما سبق وأكلت فأفسح المجال لمزيد منه». عاد أشعب فلكزه ثانية بقوة أكبر، قائلاً له: «يا ابن كذا، تعرف كل هذا ولم تخبرني به»!
ولعل القول المأثور: «نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا فلا نشبع» يوجز ببلاغة بارعة هذا الموقف الذي يعيشه ابن الصحراء. الأمر هو كذلك في الواقع، فحياة الصحراء تفرض على الإنسان والحيوان قضاء مدة طويلة من الجوع والعطش قبل أن يصل إلى النقطة التالية من المسيرة فيتزود ثانية.
«خلي يموت الحصان من أكل الشعير» مثل شعبي يرتبط بهذه الظاهرة. ويرجع أصلاً إلى حكاية أحد الزبالين وحصانه. ولا أدري لماذا لا نستمد الكثير من حكمياتنا من الزبالة والزبالين. لا تسألوني عن ذلك. يكفيني أن أقول إن حصان هذا الزبال عانى من المرض فامتنع عن الأكل وأخذ يهزل ويتلاشى، مما أثار الهلع في نفس صاحبه، فالزبال يستطيع أن يتحمل أي نكبة إلا فراق حصانه. ولكن الأقدار منت عليه فتعافى الحيوان وعاد إلى سابق عهده فجاءه صاحبه بالشعير ليأكل فتمادى الحصان في الأكل، مما هو معروف عن كل من يتعافى ويستعيد شهيته. لاحظت ذلك زوجة الزبال فقلقت على سوء المآل وحذرت زوجها أن إفراط الحصان في الأكل قد يودي بحياته، فأجابها الرجل: «خلي يموت الحصان من أكل الشعير» وهو الرأي الذي نتوقعه من زبال وسفيه من السفهاء.
وسارت هذه الكلمات بين الناس، العقلاء منهم والسفهاء.