إميل أمين
كاتب مصري
TT

القاهرة ـ واشنطن... إشكالية «حفاري القبور»

لم يكن قرار الخارجية الأميركية الأخير بشأن حجب بعض المساعدات المالية لمصر وتأجيل بعضها أمراً مفاجئاً أو صادماً لكثير من دوائر النخبة المصرية، والمتخصصين في تحليل وتفكيك الشأن الأميركي، ذلك أن الذين تابعوا جلسة الاستماع التي شهدتها أروقة مجلس الشيوخ الأميركي في أبريل (نيسان) الماضي، بحضور ثلاثة من أساطين التشدد اليميني الأميركي المحافظ؛ ميشيل دن، وتوم ماليونسكي، وإليوت ابرامز، قدر لهم توقع وضع العصا في دواليب العلاقات المصرية - الأميركية، وهو ما اتضح بشكل جائر وقاسٍ منذ أيام.
هل كانت مصر تاريخياً الطرف الوحيد المستفيد من تلك المعونة؟
بحسب تقرير بحثي أخير لمؤسسة «راند» الأميركية الرافد الرئيسي للمعلومات المستخدمة، من قبل وزارة الدفاع الأميركية «البنتاغون»، فإن 80 في المائة ونيفاً من تلك المعونة، التي هي عسكرية بطبيعتها تذهب لشراء معدات عسكرية من الداخل الأميركي عينه.
يحق لنا كذلك أن نتساءل: هل كانت هذه المعونات نعمة على مصر تضاف إليها أم نقمة تختصم منها؟
تقتضي الموضوعية والمصداقية بداية القول إن تلك المساعدات، في جانب منها، أسهمت في تطوير وتحديث الجيش المصري، وهذا كان بدوره يصب في جانب تعزيز العقيدة القتالية لأميركا وحلف الناتو في مياه البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر والشرق الأوسط برمته، وتجلى الأمر في حروب أميركية كثيرة في المنطقة، لعب فيها التعاون المصري دوراً فاعلاً وخلاقاً.
لكن على الجانب المعتم من المشهد، لا يمكن إنكار أنها أسهمت في نشوء وارتقاء طبقات اقتصادية طفيلية مصرية، روجت للفكر الاقتصادي الكمبرادوري، ذلك الذي لا يقيم تنمية حقيقية أو يبني اقتصاداً أممياً يخدم الأجيال اللاحقة، وعليه تبقى الإجابة عن السؤال المتقدم غير محسومة حتى الساعة.
يستدعي المشهد تعميق المسألة البحثية والربط بين ما يجري في واشنطن، ورؤية بعض الدوائر للمؤسسة العسكرية المصرية، تلك التي أثبتت عبر التجربة والحكم أنها الدرع والسيف الحامي لعموم المصريين أمس واليوم وإلى الأبد، ولهذا، فإننا نتساءل ومن جديد، لا سيما أن الأعوام الأخيرة شهدت تأجيل مساعدات عسكرية لمصر كما في حكم أوباما... ما الذي يريدونه من القوات المسلحة المصرية؟
أغلب الظن أنهم يتطلعون لأن يغير الجيش المصري عقيدته القتالية، فعوض عن أن يبقى المظلة والعين الساهرة الحارسة للمصريين، ولا نغالي إن قلنا للأمة العربية برمتها، عبر كونه جيشاً نظامياً حديثاً مجهزاً بأحدث المعدات لمواجهة غوائل الزمن، يريدونه جيشاً أقرب إلى فكر الميليشيات التي يمكن استخدامها في محاربة الإرهاب وجماعاته، شرقاً وغرباً، وهو الأمر الذي تدركه مصر قيادة وجيشاً وشعباً وترفضه في الحال والاستقبال، فجيشها الذي سبق جيوش العالم برمته حين تأسس لأول مرة عام 3200 قبل الميلاد، بعد توحيد الملك مينا قطري البلاد، يعد خطاً أحمر في حياة المصريين.
يستلفت الانتباه فيما يجري بين واشنطن والقاهرة، أن هناك شقاقاً وفراقاً يطالان حدود أزمة الداخل الأميركي، ففيما الرئيس الأميركي دونالد ترمب يثني الثناء الكبير والكثير على الدور المصري في مجابهة الإرهاب الذي أضحى طاعون العصر، نجد بعضاً من رجالات الكونغرس يذهبون مذهباً مغايراً يعيق معارك مصر ضد قوى الظلام، وبقرارات وصفها بيان الخارجية المصرية بأنها سوء تقدير، ومنها القرار الأخير، الأمر الذي يفتح الباب واسعاً للتساؤل ومن جديد: هل هناك من يريد أن تبقى مصر في دائرة التبعية الأميركية للأبد عسكرياً واقتصادياً؟ وهل هناك من الضلع الثالث الممثل للمجمع الصناعي العسكري - الأميركي، أي المشرعين الموالين لأصحاب مصانع أميركا العسكرية من يزعجه قيام مصر أخيراً بضبط المسافات بين واشنطن وبكين وموسكو وبروكسل وبقية عواصم العالم، ضبطاً يتصل بشراء الأسلحة، ومد جسور الصداقة، وبناء منظومة اقتصادية مصرية عصرية حرة ونزيهة، دون ارتهان القرار السيادي المصري لأي أحد حول العالم؟
الأزمة الأخيرة ومن أسف تؤكد أن قوى الإسلام السياسي لا تزال فاعلة ومؤثرة في الداخل الأميركي منذ زمن أوباما، تحت شعارات من حقوق الإنسان والدمقرطة فيما حقيقة المشهد أبعد كثيراً.
المعركة بداية ضد ترمب والمحاولات المحمومة ضده، ومن قبل أفشل الكونغرس مشروعات التقارب الترامبية مع الدولة الروسية... والعمل جارٍ على إفشال كل من حاول ترمب القادم من خارج الدائرة الأوليغاركية الأميركية العتيدة، التصالح معهم وبناء منظومة قيمية أميركية جديدة.
يحيي المرء في كل الأحوال الموقف الرسمي المصري، وتصريحات الرئيس عبد الفتاح السيسي التي فوتت الفرصة على «حفاري القبور» التقليديين، فقد أكد الرجل بهدوء وتؤدة، ضرورة العمل على تعزيز العلاقات التي تجمع بين مصر وأميركا في مختلف المجالات، واستمرار التنسيق والتشاور مع الإدارة الأميركية من أجل تطوير العمل والتعاون الثنائي.
الخلاصة... الكونغرس يهرب إلى الأمام، وسياسة العصا والجزرة تجاوزتها الأيام والسنين، وتبقى الازدواجية الأخلاقية الأميركية بين الواقعية والمثالية كارثة تهدد الحضور الأميركي ولو أدبياً في عيون شعوب العالم برمته.