عبدالله بن بجاد العتيبي
كاتب سعودي مهتم بالحركات الإسلامية والتغيرات في الدول العربية، وله عدة مؤلفات حول ذلك منها «ضد الربيع العربي» وله أبحاث منها: «القابلية للعنف والقيم البدوية»، نشر في 2006. و«السرورية» 2007. و«الولاء والبراء، آيديولوجية المعارضة السياسية في الإسلام» 2007. و«الإخوان المسلمون والسعودية الهجرة والعلاقة» 2010. قدم عدداً من الأوراق البحثية للعديد من مراكز الدراسات والصحف. شارك في العديد من المؤتمرات والندوات، وهو خريج جامعة المقاصد في بيروت في تخصص الدراسات الإسلامية.
TT

شرقٌ أوسطُ يعيد التشكل

منطقة الشرق الأوسط هي أكثر مناطق العالم اشتعالاً بالأحداث والأزمات والملفات الشائكة، تلك التي تستدعي التاريخ وتستحضر الطائفية والإرهاب وتثير صراعات الأعراق وكل بواعث التخلف، وهي نفسها التي تستحوذ على أفضل مخزونٍ للنفط والغاز والطاقة، وتعد بمستقبلٍ زاهٍ وآمنٍ للعالم.
هنا النظام الإيراني بكل طموحاته التوسعية ورعايته للطائفية والإرهاب، وهنا القضية الفلسطينية بكل تعقيداتها وإشكالياتها، هنا سوريا الأقلية المتوحشة التي تستخدم كل أسلحة الدولة ضد مواطنيها، هنا لبنان الذي يتحكم سلاح «حزب الله» في مصيره ومستقبله ويلغي دور الدولة فيه، وهنا اليمن وشعبه الذي يقتله تحالف ميليشيا الحوثي مع صالح كل يومٍ، والعراق بدولته وحكومته، وبأحزابه التابعة لإيران وميليشيات إيران من حشدٍ شعبي وغيره، وهنا تنظيم داعش في العراق وسوريا، وهنا القضية الكردية التي تبدو مستحيلة الحلّ بين طموح الأكراد ومصالح الدول التي يعيشون فيها.
قلما تجتمع كل هذه التحديات في منطقة واحدة، وبعضها حديثٌ، وبعضها مزمنٌ لطول العهد واستحالة الحل، ولكن في الحقيقة لا يوجد مستحيلٌ في السياسة، ولكل قضية حلٌ ولكل أزمة انفراج، إما بالفعل والمشاركة فيما يمكن للدول أن تفعله وإما بانتظار نضج الحلول وتغير المعطيات، والمنطقة تشهد تغييراتٍ كبرى.
المملكة العربية السعودية تقود العالم العربي في مواجهة المشروع الإيراني، وهي تسعى جهدها لإعادته إلى داخل إيران، بالسياسة والاقتصاد والتحالفات الدولية كما جرى في أفريقيا، وبالقوة العسكرية والتحالف العربي كما في اليمن وعاصفة الحزم، وهي تعود من جديدٍ لتمنح العراق ما يستحقه من اهتمامٍ، وتتواصل بشكلٍ مكثفٍ مع الحكومة العراقية ومع المكونات السياسية والدينية والإثنية داخل العراق، وستبقى الحرب مع إيران طويلة، والحلّ في كسب المعارك واحدة بعد الأخرى.
لدى السعودية حلفاء دوليون كبار، يشاركونها في موقفها ضد المشروع الإيراني، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية بإدارة الرئيس ترمب والدول الأوروبية، وهي تطوّر علاقاتٍ متميزة مع الصين، واليابان، ولديها خطوط اتصال وتعاون مع روسيا، تلك التي تختلف معها في الكثير من الملفات في المنطقة، وهذه القوة الدولية تمنح السعودية أحقية للتعامل بكل واقعية وعقلانية مع كل هذه الملفات والمشاركة في صنع المستقبل، كما أن لديها حلفاء مهمين من الدول العربية مثل الإمارات ومصر والبحرين والأردن والمغرب وغيرها.
الوفد الأميركي لعملية السلام في الشرق الأوسط حط رحاله أولاً في السعودية، للدور الجديد الذي تمثله في المنطقة ولثقلها السياسي ومكانتها المعروفة، وكذلك لأنها صاحبة مبادرة السلام العربية التي تقدم حلاً واقعياً وعقلانياً لقضية طال أمدها دون أي أفقٍ لحلٍ، وهي قضية اعتدى عليها كثيرون وعلى رأسهم إيران وقطر وبمساعدة من بعض تياراتها السياسية الموالية لهم، وتاجروا باسمها لنشر الفوضى والخراب، وما يهمهم منها إلا المزايدة الجوفاء، وهم غير راغبين في انتهائها في حقيقة الأمر.
كان الخميني يستخدم القضية الفلسطينية لتحقيق مكاسب داخلية ضد شاه إيران، واستمر في استخدامها بعد الثورة الخمينية، وإيران وميليشياتها ترفع شعار فلسطين لأجل احتلال العراق ولبنان وسوريا واليمن، وحليفهم الاستراتيجي جماعة الإخوان المسلمين صنعت عين الشيء واتجهت ذات التوجه، ودخلت قطر على القضية الفلسطينية بنفس الطريقة، وكانت حركة حماس الإخوانية هي حصان طروادة لهم للنجاح في ذلك الاستغلال والتوظيف المشين، وقد افتضح الدور الإيراني الداعم لاستقرار الفوضى وافتضح عملاؤه في البلدان العربية من «حزب الله» إلى ميليشيا الحوثي ومن حركة حماس إلى قطر.
في الملف اليمني فرضت السعودية وبالقوة العسكرية في عاصفة الحزم وإعادة الأمل نفسها داعمة للشرعية هناك، وحررت أغلب المناطق من سلطة الحوثي وصالح، وقوات الجيش اليمني وقوات التحالف العربي وتحديداً السعودي والإماراتي تدير الحرب هناك بهدوء وحكمة، فالوقت لصالح الشرعية والتحالف وضد الحوثي وصالح، وبوادر الانقسام بين الحليفين وإن لم تكن قوية بعد ولكنها تتجه للتصعيد، وبالتحديد بعد طرد قطر من التحالف العربي وعجزها عن الخيانة هناك.
في العراق، فإن الانفتاح السعودي هناك مرحبٌ به، وبخاصة بعدما اكتشفت شرائح واسعة من الشعب العراقي بشاعة التدخل الإيراني، وكم هو غاشمٌ وطائفيٌ ودمويٌ، وكيف دعمت إيران استقرار الفوضى في العراق منذ ما بعد 2003 وإلى اليوم، وأظهرت إيران أنها ليست معنية بمصلحة الشعب العراقي بأي شكلٍ من الأشكال، بل إن بعض القوى السياسية التي حالفتها في مراحل معينة باتت ترغب صراحة في رحيلها والتخلص منها.
القضية الكردية ليست قضية عراقية فحسب، فالأكراد شعبٌ وأمةٌ تمّ توزيعها بعد استقرار الدول الحديثة في المنطقة على أكثر من دولة، فهم موجودون بالإضافة إلى العراق في سوريا وتركيا وإيران، بنسبٍ متفاوتةٍ، ولهم مطالبات بالاستقلال في كل هذه الدول، ولكنّها في العراق اليوم تتجه للاستفتاء المباشر في سبتمبر (أيلول) المقبل بعدما حصلت على الحكم الذاتي 1970 والاستقلال الواقعي 1991 بعد انسحاب قوات صدام حسين منها، وككيان اتحادي ضمن العراق في دستور 2005.
لا يخشى العراق وحده استقلال كردستان، بل تخشاه إيران وتركيا، فإيران تحرض الحشد الشعبي على الاتجاه لكردستان بعد القضاء على «داعش»، وتركيا تهدد وتتوعد وتخشى من قيام كيانٍ كردي مستقلٍ لما قد يشكله ذلك من خطرٍ على أمنها الداخلي ومن تأثيرٍ على أكراد تركيا، ومن هنا تصعّد تركيا موقفها ضد قوات سوريا الديمقراطية ووحدات الشعب الكردية المدعومة أميركياً، وهي تتجه لتعزيز علاقاتها بإيران مؤخراً استشعاراً لهذا الخطر.
أي سياسي سيتعامل مع كل هذه القضايا الشائكة بالنظر إليها بشكلٍ منفصلٍ لكل قضية، وكذلك بشكلٍ شاملٍ ينتظمها جميعاً، مع الأخذ بالاعتبار كل القضايا المهمة ذات العلاقة، فقضية الإرهاب على سبيل المثال، قضية عابرة للحدود في المنطقة، وهي تجمع إيران بجماعة الإخوان المسلمين، وبالحشد الشعبي وبتنظيم داعش، وبقطر وبتنظيم القاعدة، وهي قضية تجمع العالم بأسره عدا إيران وحلفائها. وفي العراق وسوريا فالأكراد مقاتلون شرسون ضد تنظيم داعش، والحشد الشعبي يتجه ربما لقتال البيشمركة الكردية بعد القضاء على «داعش»، وتركيا تهدد قوات سوريا الديمقراطية التي تهاجم «داعش» في الرقة بسوريا، بتدريبٍ وتسليحٍ أميركي كامل.
الفارق يكمن في الرؤية التي تحكم النظر لكل هذه القضايا، وفي الهدف والغاية، فالأزمات يمكن أن تكون فرصاً، والتحديات يمكن أن تكون حافزاً، والدول تبعاً لمصالحها، ترقب المتغيرات وتشارك في صنعها.

[email protected]