طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

صاحب العصمة الأول والأخير

كثيراً ما نقع في تناقض بين أن ننحاز لرأي الناس، ونعتبر أن مرجعيتنا هي شباك التذاكر، وبين أن نتهم الجمهور بتشجيع الإسفاف، ونصوب أقلامنا الغاضبة تجاه الناس، ونعتبرها هي المسؤولة عن التردي والتراجع، وما أسهل تلك الشماعة عندما نريد أن نُريح ونستريح، إلا أننا في واقع الأمر لا نخدع إلا أنفسنا.
كان المخرج السينمائي الكبير صلاح أبو سيف كثيراً ما يقول لي عندما ينجح لي أو لغيري عمل فني أحاول أن أستفيد من رأي الناس، وأعرف لماذا أقبل الناس، والعكس أيضاً عندما يفشل عمل فني أحاول أن أعرف أين بالتحديد مكمن الضعف، ولماذا تحول الشريط السينمائي من عامل جذب للجمهور إلى عامل طرد؟
وعندما كنت أسأله عن أهم مخرج سينمائي في جيله لم يكن يذكر منافسه اللدود في ذلك الزمن، أقصد طبعاً يوسف شاهين، بل كان يقول لي حسن الإمام، هو المخرج الأول، لأن الناس تذهب لأفلامه وتقطع من أجل اسمه تذكرة الدخول للسينما، بينما كل المخرجين، وأنا منهم، يبحث المتفرج أولاً عن اسم النجم.
حدث مثلاً أن عرضت السينما في مطلع الستينيات لصلاح أبو سيف فيلم (بين السماء الأرض)، واجه الفيلم حالة غضب في السينما، إلى درجة أن أبو سيف كاد يتعرض لمحاولة الاعتداء عليه، كان من بين طقوس الذهاب للسينما في ذلك الزمن خاصة في اليوم الأول لعرض الفيلم، أن يحضر المتفرج مرتديا ملابسه كاملة، وفوجئ أبو سيف بأن متفرجا يلمحه عن بعد برغم أنه كان يقف في نهاية دار العرض... وكان أبو سيف يرتدي كرافت وكذلك المتفرج، اكتشف أبو سيف أن المتفرج يخلع الكرافت ويتجه إليه وهو يكاد يمسك برقبته ويُحكم عليها الخناق قائلاً: منك لله خنقتنا.
ولم يحتج أبو سيف، فلقد كان يعلم أنه يُقدم فيلماً تدور أحداثه داخل مصعد، واعتبر أن شعور المتفرج بالضيق الذي يصل لمشارف الاختناق هو أكبر تحية توجه إليه.
عندما يريدون السخرية من نجاح فيلم أو أغنية بعد أن حققت المبيعات أعلى الأرقام، يقولون ساخرين: «الجمهور عايز كده»، وكأن الجمهور هو عنوان للرداءة، رغم أن العكس وبنسبة كبيرة هو الصحيح.
على الجانب الآخر، عندما يفشل عمل فني يجب أن يملك صُناعه القدرة على المواجهة والبحث عن أسباب الفشل، حتى يتداركوها في العمل القادم، وعليهم ألا يوجهوا سهام غضبهم للجمهور المجني عليه.
أتذكر في بداية السبعينيات من القرن الماضي أن ملحناً كبيراً فشلت له قصيدة، فقال على الفور: أنا لم أخفق، الجمهور هو الذي أخفق، لأنه لم يستسغ اللحن بعد أن أفسدوا ذوقه، وظل حتى اللحظة الأخيرة من حياته موقناً من نجاحه هو وفشل الجمهور، الذي لم يُدرك عظمة ما قدمه من إبداع.
العمل الفني الذي تسكنه مواطن الجمال والمشبع فنياً، من الممكن أن يحمل الدفء للجمهور وإقناعه بالذهاب إليه، مهما واجهته من عوامل طرد، حيث إن السحر الفني هو السلاح القادر على الجذب.
إرادة الناس لا يمكن تغييبها أو كبتها، طبعا أنا مع الرأي الذي يؤكد أن مقياس الشباك ليس هو (الترمومتر) الوحيد الذي نقيس به النجاح، ولكن الزمن يلعب دوراً بلا شك، وكلما شهد الزمن القادم لصالح العمل الفني واستعاده الناس فتلك النقطة تصب لصالحه، وهكذا فإن الجمهور في الحالتين سواء أقبل أو أحجم عن العمل الفني، فهو صاحب العصمة الأول والأخير!