لؤي عبد الإله
كاتب عراقي مقيم في لندن
TT

الطريق نحو الانقراض الثقافي

لا أجد أي غرابة في صعود «داعش»، فقبلها سبقتها «القاعدة»، وقبلها سبقهما سيد قطب، الذي أدار ظهره على عصرنا معتبراً إياه جاهلية جديدة، مطالباً بالقطيعة مع العالم في إنجازاته العلمية والثقافية والفنية، لأنها في نهاية المطاف جزء من جاهلية مقيتة.
عرف الغرب منذ القرن السابع عشر تطوراً في مجال العلوم التطبيقية والنظرية، وشهدت أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين ثورة علمية هائلة في مجال ما سمي فيزياء الكم، التي تمكنت من تفكيك الذرة وفهم ما تحتويه من أسرار كثيرة ترتبت عليها عدة ثورات (غير دموية) في مجال المنتجات الإلكترونية من راديو وتلغراف وتلفزيون إلى عصر الترانسستور، الذي سمح بتحويل الراديو أو التلفزيون بحجميهما الكبيرين إلى علب صغيرة يمكن حملها في الجيب، وجاءت ثورة الرقاقات لتسمح بتحويل الكومبيوتر الذي كان يحتل بيتا بأكمله في الستينات من القرن الماضي إلى جهاز صغير يمكن وضعه في الجيب، ثم جاءت أخيراً الثورة الرقمية وثورة السيليكون لتدفع بأدوات الاتصال والتواصل والتسلية والكومبيوترات والحواسيب خطوات جاوزت ما كان يتخيله الرواد الكبار من أينشتاين وبور وبورن وغيرهم.
عند متابعة تاريخ تطور الأفكار والنظريات نجد أن الكثير من بلدان أوروبا شارك علماؤها في صياغتها. ومن بين بلدان آسيا هناك مساهمة متواضعة من الهند فقط. وكأن هناك حواراً عميقاً قائماً بين العلماء ومساهمات متعددة من بلدان مختلفة مثل الدنمارك وألمانيا وبريطانيا وآيرلندا وغيرها. وكل حل رياضي أو كيميائي أو فيزيائي لمشكلة قائمة كان يستقبل من قبل الآخرين بترحيب كبير بغض النظر عن المصدر.
أمام هذا التطور الهائل الذي يثير أسئلة كثيرة، أصبح التقوقع ورفض حتى أوليات الاكتشافات العلمية التي أصبحت بديهيات هو الطريق الوحيد أمام تيار كبير من المتشددين ودعاة الإسلام السياسي، وأصبح العنف لبعض أطراف منهم هو الطريقة الوحيدة لمواجهة هذا الفيض من المعرفة في جميع الحقول العلمية والإنسانية، التي أصبح الحصول عليها سهلا عبر الإنترنت ووسائل التواصل الأخرى.
لكن المستغرب حقاً أن يظهر علينا مشككون في ظواهر علمية، مستخدمين التقنية نفسها التي شككوا فيها لتصبح وسيلة لهم لنشر آرائهم وقناعاتهم المجمدة للعقل وروح الابتكار، وفرضها بالقوة متى كان ممكناً، على الرغم من أنها تنتمي إلى عصر لم يعرف الإنسان فيه سوى الجمل والحصان كوسيلتي نقل.
ولعل العنف وقطع الرؤوس وفرض الشعائر بالقوة على الناس كما تقوم به «داعش»، هو تعبير عن أزمة عميقة ناجمة عن الفجوة القائمة بيننا كبلدان مستهلكة محض وبلدان تقوم بمهمات تطوير النظريات العلمية وتطبيقاتها العملية. وهذا يذكرني بحال تلك الشعوب التي اختفت عن وجه الأرض.
لم تنقرض شعوب وقبائل في أميركا وأستراليا وأفريقيا بسبب قسوة المستوطن الجديد القادم من أوروبا فقط، بل لأن هذه الأقوام لم يحالفها الحظ كي تتطور مع تطور العالم القديم (أوروبا بالذات) حضارة وعلما وسلاحا وكيانات اجتماعية وثقافية، إذ بقيت عبر مئات السنوات أو ربما آلاف السنوات وهي تكرر نفسها ثقافة وأدوات وسلاحا. ولعل الفجوة الهائلة في التطور العلمي بينها وبين أوروبا لم تسمح لها بالتطور السريع حين واجهها المستوطنون الجدد فجأة، فكان لزاما عليها أن تشجع العمليات الانتحارية ووسائل المواجهة البدائية من سحر وشعوذة وأسلحة بدائية كالسيف والرمح والقوس أمام المدفع والبندقية.
العنف الذي تمارسه «داعش» و«بوكو حرام» و«القاعدة» وغيرها، هو تعبير حسب اعتقادي عن حالة عجز مطلق أمام انفتاح أبواب المعرفة العلمية والثقافية أمام الجميع، ورفض التواصل والتفاعل مع العالم ككل، إذ ما عاد التطور العلمي والتقني الذي يشهده العالم أجمع حكرا على أوروبا وأميركا فقط، بل أصبح الكثير من بلدان آسيا كالصين واليابان وكوريا طرفا فعالا فيه.
يحذر الروائي الراحل نجيب محفوظ في إحدى المقابلات معه من أن يصيب العرب ما أصاب الهنود الحمر وقبائل الأمازون من انقراض، بسبب هذه العزلة والعجز في مسايرة إيقاع التطور.
و«داعش» ومثيلاتها هي علامة منذرة لهذا الانقراض الذي لن يكون انقراضاً جسدياً، بل انقراض للقيم، ومن ثم تسود الحروب الأهلية والخراب دون توقف، والانكفاء على الماضي القديم وتأويله ليعمق من النزاعات الداخلية.
هذا لا يعني انعدام مصلحة بعض الدول الكبرى في تخريب كهذا، لكن البكتيريا عادة لا تصيب الكائن الحي بالأذى إلا إذا كان مهيأ داخليا لذلك.
* كاتب عراقي مقيم في لندن