ليونيد بيرشيدسكي
TT

حواجز السفر... ملامح حرب باردة جديدة

قد يشكل أحدث الإجراءات في إطار التصعيد المستمر بين الولايات المتحدة وروسيا، أكثرها غباءً وضرراً: تقر الدولتان قيوداً فعلية على السفر بالنسبة لمواطني الدولة الأخرى، مما يؤدي إلى خنق أكثر القنوات وداً وإنسانية للتواصل بينهما. وتعد تلك الخطوة الارتجاعية الكبرى نحو حقبة الحرب الباردة من جانب الحكومتين الأميركية والروسية حتى الآن.
من ناحيتها، توقفت وزارة الخارجية عن إصدار تأشيرات دخول «فيزات» في كل من يكاترينبورغ وفلاديفوستوك وسانت بطرسبرغ، وذلك رداً على المطالب الروسية بتقليص البعثة الدبلوماسية في روسيا على نحو بالغ.
يذكر أنه عام 2016، أصدرت القنصليات الأميركية في المدن الروسية الثلاث 46.243 تأشيرة دخول، مما يعادل قرابة ثلث إجمالي «الفيزات» الصادرة عن السفارة الأميركية في موسكو، التي تعد حالياً المكتب الوحيد الذي يصدر «الفيزات» داخل روسيا. ومن شأن هذا القرار وضع نهاية لجميع فرص السفر إلى الولايات المتحدة من المناطق النائية الروسية، بل وحتى من سانت بطرسبرغ، ثاني أكبر مدن روسيا. والمعتقد أن معظم الراغبين في السفر إلى الولايات المتحدة سيختارون الآن وجهة مختلفة، بدلاً عن السفر إلى موسكو لخوض مقابلة في القنصلية سعياً لاستصدار فيزا.
وكما لو أن هذا الإجراء لم يكن كافياً كقرار انتقامي، أمرت الولايات المتحدة أيضاً روسيا بإغلاق قنصليتها في سان فرانسيسكو. من جانبها، لا تكشف وزارة الخارجية الروسية عن بياناتها المتعلقة بإحصاءات الفيزا. وعليه، من غير الواضح عدد تأشيرات الدخول الروسية السياحية الـ56.229 التي حصل عليها أميركيون عام 2015، صدرت من هذه القنصلية. ومع هذا، تظل الحقيقة أن هذا القرار يعني إنهاء جميع رحلات السفر غير الضرورية إلى روسيا للأشخاص الذين يعيشون على الساحل الغربي.
من جانبي، أتفهم منطق الإجراءات الدبلوماسية الانتقامية، ولا يهمني من بدأ هذه الإجراءات أو من ينبغي توجيه اللوم إليه. كما ليست هناك حاجة للدخول في الجدل الأكاديمي القديم حول ما إذا كانت السياحة أداة للسلام أو مستفيداً من السلام. بيد أنه يبدو من البديهي تماماً أن إبقاء المسافرين بعيداً عن بلد ما يحول دون تكوينهم آراء مستقلة حوله. وعليه، فإن منع الروس من السفر إلى الولايات المتحدة يتركهم تحت رحمة الآلة الدعائية للكرملين. وبالمثل، فإن خلق عوائق أمام الأميركيين الراغبين في السفر إلى روسيا يتركهم محصورين بين خياري التيار الرئيسي من الإعلام الذي يظهر عداءً متزايداً تجاه روسيا أو النسخة المصدرة للخارج لروسيا من جانب ذات الآلة الدعائية للكرملين.
خلال تنقلاتي بمختلف أرجاء الولايات المتحدة، أثناء الحملة الانتخابية عام 2016، التقيت أشخاصاً راضين تماماً بالخطاب السائد في التيار الرئيسي من الإعلام حول المجتمع الروسي باعتباره مجتمعاً متخلفاً ومفلساً أخلاقياً وعلى درجة بائسة من الفساد. وفي المقابل، كان هناك متابعون متحمسون لقناة «آر تي» التلفزيونية الممولة من الحكومة الروسية التي تشكك في الخطاب السائد في الإعلام الأميركي حول روسيا وتشيد بآيديولوجية الرئيس فلاديمير بوتين وأساليبه. وأخفقت في إقناع كلا الجانبين بتغيير وجهة نظرهم إزاء وطني.
وبالمثل، غالباً ما التقيت روساً يرفضون القصص التي أرويها عن تعقيد الحياة داخل الولايات المتحدة.
ومع هذا، فإن سوء التفاهم المتبادل بين الجانبين ليس بعد على ذات القدر من السوء الذي كان عليه في ثمانينات القرن الماضي، عندما لحق الضعف بالاتحاد السوفياتي وبدأت شقوق تظهر في «الستار الحديدي». وعادة ما بدت علامات الصدمة على الأميركيين الذين كنت التقيهم آنذاك نتيجة لتجربتهم من خلال اتصالات غير رسمية مع روس. ولا أزال أذكر الدهشة العارمة التي تملكتني عندما قدمت إلى الولايات المتحدة عام 1993 وركبت حافلة «غراي هاوند» من الساحل إلى الساحل، وتحدثت في الطريق إلى العشرات واكتشفت حجم التشابه الكبير بيننا.
الآن، ومع تراجع فرص السفر ومقابلة بعضنا بعضا، فإن الأمر لن يعدو مسألة وقت قبل أن نعود إلى أجواء ثمانينات القرن الماضي ونصبح على جهل مطبق بعضنا ببعض. ويخلف هذا الوضع تشوهات أسوأ عما يفرزه تراجع التبادل التجاري أو العقوبات التكنولوجية أو الحروب الدعائية. في الواقع، تكفل مثل هذه التشوهات حدوث مزيد من التصعيد - ذلك أنه من الأسهل أن يكره المرء أشخاصاً لم يسبق له مقابلتهم.
في الواقع، من الصعب تفهم السبب وراء حماس الولايات المتحدة إزاء القيود التي فرضتها على السفر، خاصة أنها متفوقة على صعيد القوة الناعمة. والواضح أنه من الأسهل للروس أن يجدوا أموراً تثير إعجابهم داخل الولايات المتحدة، عن قدرة الأميركيين على كسر القشرة الصلبة التي تغلف المجتمع الروسي الأكثر انغلاقاً وحذراً. أيضاً، لدى الأميركيين عدد أكبر من الإنجازات التي يمكنهم التباهي بها، فلماذا تقدم واشنطن على إهدار هذه الميزة على إجراءات انتقامية؟
جدير بالذكر أنه عام 2012، أقدمت جورجيا، التي عايشت غزواً روسياً لفترة وجيزة عام 2008 والتي واجه مواطنوها صعوبات في السفر إلى روسيا، على إلغاء الفيزات من طرف واحد أمام الروس. من ناحيتها، انتقدت موسكو الخطوة باعتبارها مجرد «إجراء دعائي». إلا أنني والكثير من الروس لم يعبأوا بهذا الموقف الروسي. وفي ذلك العام، كنت من بين 513.930 سائحاً روسياً زاروا جورجيا، بارتفاع عن 278.458 في العام السابق. وعاينت شخصياً عن قرب كيف أن الجورجيين كانوا ودودين تجاهنا، وشاهدت حجم التقدم الذي أحرزته البلاد منذ تسعينات القرن الماضي.
أما بالنسبة لسبب وراء امتناع واشنطن عن اتخاذ خطوة مشابهة وما تبدو عليه من استمتاع بزيادة صعوبة السفر إليها، أميل من جانبي لرأي العالم السياسي البلغاري إيفان كراستيف الذي نشر في الفترة الأخيرة مقالاً في صحيفة «نيويورك تايمز» قال فيه إن الأميركيين - تحديداً الليبراليين منهم - «مفتونون ومرعوبون» من روسيا لأنها توفر لهم لمحة مما سيكون عليه مستقبل أميركا.
وأضاف: «ما يثير قلق أميركا الليبرالية ليس أن روسيا ستتسيد العالم - في الواقع هي بعيدة عن ذلك تماماً. في الواقع، ينبع الخوف، بغض النظر عما إذا أقر الليبراليون ذلك، من أن الولايات المتحدة بدأت تشبه روسيا».
وتبدو هذه الفكرة جديرة بمزيد من التحليل المفصل، نظراً لوجود تشابهات لافتة بين الحالتين بالفعل. وقد يقف الخوف الغريزي من التقاط أمراض اجتماعية روسية - من القومية الحادة إلى التشكك المفرط - وراء عجز الولايات المتحدة عن إدراك الفوائد التي تجنيها البلاد من وراء تمكن أعداد كبيرة من الروس من زيارتها.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»