إميل أمين
كاتب مصري
TT

عن إصلاح البيت الزجاجي

يصف الأمين العام الأسبق الراحل الدكتور بطرس غالي الأمم المتحدة بأنها بيت من زجاج، وذلك عبر مذكراته عن السنوات الخمس التي أمضاها هناك قبل أن تقطع عليه مادلين أولبرايت الطريق إلى ولاية ثانية.
ولدت هيئة الأمم كحلم يوتوبي طهراني جميل بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، في تلك الفترة لم يكن داء «الإمبراطورية» قد تسلل إلى مفاصل الولايات المتحدة، ولذا فقد تركزت المحاولة التي تزعمتها واشنطن على إقامة نظام دولي مستقر وعادل وتعاوني.
غير أن هذا الحلم تغيرت أحواله وتبدلت طباعه بعد أزيد من سبعة عقود لتضحى رهينة لدولة عظمى واحدة، وهو ما لم يكن أبداً حلم المؤسسين الذين ساروا على نهج فلسفة جان جاك روسو لجهة «العقد الاجتماعي» بين الأمم والشعوب.
قبل نحو أسبوعين من انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، خرجت علينا الأنباء بأن الرئيس ترمب يعتزم تنظيم اجتماع لقادة العالم في المنظمة الأممية في 18 سبتمبر (أيلول)، للدفع باتجاه إصلاح المنظمة وأن الرجل لديه خطة لدعم جهود الأمين العام أنطونيو غوتيريش لبدء إصلاحات فعالة وجادة.
الإعلان في واقع الحال مثل مفاجأة كبرى للمحللين المتابعين للشأن الأميركي؛ ذلك أنهم يعلمون تمام العلم أن ترمب لم يكن يوماً مهموماً بحال ومآل المؤسسة الأممية، والجميع يتذكر أنه في ديسمبر (كانون الأول) الماضي وبعد فوزه بالرئاسة وصفها بأنها «ناد لقضاء أوقات التسلية»، وحسناً قال في توصيفه، فقد باتت بالفعل منظمة خارج أطر الفاعلية الحقيقية، لا سيما منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، واستعلان زمن القطب الأميركي الأوحد.
عدة أسئلة تقابل المرء.. هل ترمب هو الشخص المؤهل لهذا الإصلاح الكبير الذي تحتاجه الأمم المتحدة، بمعنى هل يملك الرجل دالة ما على التفكير السياسي العالمي المعمق لإشكاليات ما بعد الحداثة والعولمة وزمن القلاقل والقوميات المتناحرة؟
يمكننا أن ندع الطروحات الآيديولوجية السابقة جنباً ونتساءل عن فحوى خطة ترمب وهل هي بالفعل طوق نجاة للمنظمة الدولية التي تكاد تجرفها مياه الـ«إيست ريفر» في نيويورك؟ أم أن الأمر لا يتجاوز استعراضاً إعلامياً يريد به تحقيق نجاحات ولو إعلامية، لا سيما أنه يتعرض لسلسلة من الانتكاسات السياسية الداخلية والخارجية، تكاد تذهب بولايته قبل أن يقدر له إكمالها؟
ما رشح عن خطة ترمب يتناول خفض ازدواجية التفويض والتكرار والتداخل في عمل الوكالات التابعة للمنظمة، وإحداث تغييرات ملموسة في منظومة العمل الأممية لتحسين أدائها في ميادين العمل الإنساني والإنمائي للسلام.
هنا لا يمكن للمرء أن يحاجج بالقول إن هذه إصلاحات غير جدية، بل على العكس، إنها مرحب بها وتحتاجها المؤسسة الدولية، لكن تقليب الأمر على وجهه الحقيقي يبين لنا أن المسألة لا تعدو تغييرات هيكلية في البنية الإدارية، دون إحداث نقلة حقيقية في بنيتها السياسية التي تجاوزها الزمن، إذ لم يعد من المقبول أو المعقول أن يبقى مجلس الأمن مكوناً من خمسة أعضاء، في حين ظهرت وتظهر على سطح الأحداث الدولية تجمعات إقليمية وعالمية، وكذا دول وجماعات وشركات عالمية باتت لا تقل فاعلية عن بعض الدول الأعضاء الحاليين، كما أن الصلاحيات التي تتمتع بها الجمعية العامة باتت منقوصة وبشكل بالغ، ولم تعد قادرة على اللحاق بعالم معولم يتغير بطرق غير متوقعة، وسوف يتغير أكثر.
في زمن الانتخابات الرئاسية تحدث الرئيس ترمب عن الحصة المالية التي تدفعها واشنطن بوصفها غير عادلة وسعى لخفض التمويل للمنظمة، لكنه يعود الآن ليتكلم عن التمويل الأميركي ليصفه بأنه زهيد إذا ما قورن بالدور المهم للمنظمة... هل يحق لنا أن نتساءل: «أي ترمب نصدق»؟
ثم، وهذا هو الأهم، هل من علاقة ما بين هذه الرؤية الإصلاحية للبيت الزجاجي وثورة الجنرالات التي تجتاح إدارة ترمب مؤخراً، مع الأخذ في عين الاعتبار أن هؤلاء لا يحملون وداً كبيراً للهيئة الأممية، فحياتهم في ميادين الحروب واشتباكهم مع المجتمع الصناعي العسكري لا يستقيمان كثيراً مع البحث عن السلام والنماء اللذين يتناولهما ترمب في نقاطه العشر.
قد يكون الوقت مبكراً للحكم على أبعاد خطة ترمب، لكن المؤكد أن علامات استفهام كثيرة تغلفها، خاصة في ظل أجواء عودة الحرب الباردة مع الروس من جديد، وبوتين المقاطع لأعمال الدورة القادمة للجمعية العمومية.
الرئيس ترمب يؤمن بـ«أميركا أولاً»، وهو أمر يختلف كثيراً عن قناعات روزفلت وآيزنهاور في أمم متحدة تساعد بقية العالم على الوقوف على قدميه من جديد، وتؤمن بالقانون الدولي، وببناء منظومات اقتصادية عالمية مثل «بريتون وودز»، ما أنتج وقتها صورة مشرقة لأميركا في عيون العالم.
هل ستتيح الأقدار لترمب أن ينفذ رؤيته الإصلاحية للأمم المتحدة أم أن المحقق الخاص موللر واقف له خلف باب «روسيا غيت» مشتهياً إفساد كافة مشروعاته من حدود البيت الأبيض إلى خط الأمم المتحدة.