منذ صدور مجموعاته الأولى، حقق جون آشبري، الذي رحل في الثالث من هذا الشهر عن 90 عاماً، لنفسه مكانة بارزة في المشهد الشعري الأميركي المعاصر. وكان أول المحتفين به دبليو. إتش. أودن، الذي منحه جائزة جماعة ييل للشعراء الشباب 1954، هذه المكانة عززها لاحقاً بمجموعاته الشعرية التي تجاوزت العشرين. ويكاد يجمع النقاد على إنه واحد من أهم الشعراء الأميركيين في القرن العشرين، أو في الأقل في الخمسين سنة الأخيرة، وعراب «شعر ما بعد الحداثة» في الأدب الأنغلوسكسوني. وربما يكون الشاعر الوحيد، بعد وليم كارلوس وليمز(1883 - 1963) وولاس ستيفن(1879 - 1955)، الذي حقق شبه إجماع نقدي وأكاديمي على منجزه الشعري الفخم، فلم تبق جائزة مهمة لم يحصل عليها مثل جائزة بوليتزر، وجائزة روث ليلي، وجائزة غريفن الدولية.
أين تكمن أهمية منجزه الشعري؟ للقراءة الأولى، وهذا ما حصل معي، تبدو قصيدة آشبري مهلهلة تماما، تأملات تجريدية، فكرية أو فلسفية في مشهد طبيعي أو اجتماعي أو في حادثة ما، ليس على طريقة شعراء مدرسة نيويورك، رغم انتمائه إليها، وبشكل أكثر تحديداً ليس على طريقة زميله الشاعر فرانك أوهارا، مثلاً، الذي يرسم لنا مشاهد يومية لا يبدو أن هناك جامعا يوحدها، وعليك أن تنتظر حتى النهاية، لتكشف أنك واهم، وأن هناك منطقا وراء كل هذا المشاهد المفككة، التي ستقود إلى ذروة القصيدة الكبرى. هذه التأملات عند آشبري تبدو في القراءة الأولى أقرب إلى التنظير الذي قد يدخل رأسك، ولكن ليس إحساسك أو دواخلك، وسرعان ما يصيبك الملل.
قصيدة آشبري، بكل أبعادها الخبيئة، ستتكشف عند القراءة المتأنية، الصبورة، والمجهدة كذلك، وكأنك تكتشف شاعراً آخر، لا يمت بصلة للشاعر الأول. وبكلمة أخرى، إن قصيدته تتحدى القارئ لينبذ كل الافتراضات فيما يتعلق بالغرض، والموضوع، و«الرافعات الأسلوبية للشعر»، لمصلحة أدب يعكس حدود اللغة وهشاشة الوعي، كما يقول أحد نقاده. إنها، بكلمة أخرى، قصيدة تأمل في مشكلات الوجود الكبرى، وليس الوجود اليومي، على طريقة معظم شعراء مدرسة نيويورك، تختلط فيها الرمزية والسوريالية والميتافيزيقية:
ما إن فكرت أنه لا يوجد متسع لفكرة أخرى في رأسي
حتى داهمتني هذه الفكرة العظيمة -
سمها فلسفة الحياة، إذا شئت،
باختصار، إنها تشمل العيش حسب الطريقة التي يعيشها الفلاسفة
حسب منظومة من المبادئ. حسنا،
لكن أي منها؟
يقول الناقد وليم لوغان في مجلة «نيو كرايتريون عن شعر آشبري: «شعراء قليلون يتلاعبون بمثل هذه الذائقة، أو يعذبون، رغبتنا الأكيدة بالحصول على معنى». فآشبري يذكرنا «بأن الشعراء الذي يمنحوننا المعنى، لا يعرفون عن أي شيء يتحدثون».
إنه عالم بلا معنى. مفكك إلى قطع بشكل فوضوي لم يعرفه العالم من قبل. لم تفعل الحداثة سوى إيهامنا بأن هناك مركزاً لهذا العالم، حتى لو كان هذا العالم لا يفعل شيئا سوى الدوران على هذا المركز، كما كتب ييتس مرة في قصيدته الكبرى «المجيء الثاني». ولكن إذا كانت لحركة ما بعد الحداثة فضل، فهو كشف هزالة هذا المركز، إن لم يكن وهمه، الذي تجسد بصورته القصوى فيما سمي بـ«المركزية الأوروبية». ولكننا اكتشفنا أنه لا يوجد لهذا العالم مركز واحد، مهما كانت أهميته السياسية والحضارية والثقافية، بل مراكز موزعة في إرجائه، وهي غالبا تنتج اللامعنى. وربما أول من فكك هذا المركز هو إليوت في قصيدته الكبرى «الأرض اليباب». العالم قطع متناثرة لا يجمعها جامع، ولا يمكن أن يجمعها، لأنها في هذه الحالة ستفقد أصالتها بخرافاتها وأساطيرها الحية، التي تمشي يوميا في الشوارع، وتسكن النفوس والعقول، وتخلق بدورها أساطير مستقلة عنها. أسطورة تولد أخرى. وشبح يولد آخر. هل العالم شيء آخر منذ فجر الخليقة حتى يومنا هذا؟ لكنه عالمنا وعلينا أن نفعل شيئا من أجله. ولن يتم ذلك إلا بتفكيكه أولا، شذرات شذرات، فمعنى المعنى لا يكمن في الكل الخادع، بل في كل جزيئة من حياتنا ووجودنا. ما بعد الحداثة، هذه الحركة التي ما تزال غير مفهومة تماما فنيا رغم ولادتها في الأقل منذ بداية السبعينات، ليست أكثر من محاولة فهم المعنى وراء اللامعنى، وراء توحش الرأسمال، والأسطورة والخرافة، والرمز والحكاية، وخلف القبح والتشويه اللذين يسودان واقعنا اليومي النثري البغيض.
ربما أرادت الحداثة، بحكم آيديولوجيتها المستترة، أن تغير العالم، لكن ما بعد الحداثة لا تملك مثل هذه الطموح.
إنها لا تريد سوى أن تفكك العالم أولا، من أجل رؤيته بوضوح.. بلا قناع جميل، هو قناع خادع بكل الأحوال. ومن هنا اتهم الفيلسوف يورغن هبرماس ما بعد الحداثة بأنها لا تبدي مقاومة للأمر الواقع. والحقيقة أن هذه ليست مهمتها، ولم تدعيها مرة، على عكس ما اصطلح على تسميته بـ«السرديات الكبرى»، أي القصص التي لها بداية ونهاية، ككل الآيديولوجيات. لا بداية ولا نهاية هناك للعالم الذي نعيش. عالم الأشباح.
مثل هذه الأفكار تنتشر في الكتابات النظرية لممثلي ما بعد الحداثة مثل ميشال فوكو، وجان فرنسوا يوتارد، وجان بودليرار، وتجسدت في كثير من الفنون، وخاصة العمارة. لكن
آشبري في رأينا هو من أفضل من جسد هذه المفاهيم شعريا منذ النصف الثاني من القرن العشرين.
في قصيدة «فاوست» المترجمة هنا، وهي في اعتقادنا نموذج لأفضل قصائده، اختصار لقصة عالمنا ما بعد الحداثي.
إنه ينطلق من أوبرا «فاوست ومارغريت». وهي أوبرا ضخمة من خمسة فصول لتشارلز غونود، مستلهمة من مسرحية مايكل كاريه، المستندة بدورها، وإن بشكل خفيف، على الفصل الأول من مسرحية غوته الشهيرة «فاوست». ومن خلال تداخل المشاهد والأحداث، ينقلنا إلى عالم آخر تحكمه الأشباح، التي تطل من السقف، والنوافذ، والأرضية، ويسقطها ضوء الشمس على السجادة الخضراء.
مسرح الأوبرا هو العالم كله بلا ممثلين. إنهم يختفون فلم نعد نراهم. والمسرح يتحول إلى جحور ينساب منها «فاوست جديد»، باحثاً عن عمره القديم الضائع. لقد باع روحه وانتهى الأمر. الجمهور يغادر، والممثلون يختفون.
المسرح فارغ تماماً. لم يعد هناك أحد هناك سوى الأشباح. أشباح لا نراها. وبالتالي لا أوبرا هناك.
ولد جون آشبري عام 1927 في روتشستر، نيويورك، وبدأ نشر الشعر حين كان طالباً في أكاديمية ديرفيلد. درس في جامعة هارفارد، وكانت أطروحته عن الشاعر البريطاني، دبليو. إتش. أودن. نال درجة الماجستير من جامعة كولومبيا.
ارتبط اسمه مع شعراء مدرسة نيويورك، التي كانت تضم أيضا فرانك أوهارا، زميله في هارفارد، وكينيث كوتش. غادر إلى فرنسا بداية الخمسينات، حيث عمل كناقد فني. مارس الرسم أيضاً، وارتبط بعلاقات وثيقة مع أبرز رسامي تلك الفترة.
فاوست
لو فقط يكف الشبح عن معاودة الظهور
العمل، لو أردت أن تعرف، رديء في الأوبرا
البطلة لم تعد تظهر في «فاوست».
الجمهور غادر حزينا. الشبح
راقبهم من السطح، لم يخمن أن الجوع
الذي كان يمكن تحريضه قبل الخيبة، قد بدأ.
يوما ما، بينما كان الصباح على وشك أن يبدأ
رجل بالبني، ذو قميص أبيض، عاود الظهور
من تحت سترته الصفراء
كان يتحدث عن الجوع
مع مخرج الأوبرا ذي الشعر الفضي
على الأرضية ذات السجادة الخضراء، لم يظهر أي شبح
ما عدا مربعات صفراء من ضوء الشمس
تشبه تلك التي في «فاوست»
في تلك الليلة، بينما كان موسيقيو «فاوست»
على وشك أن يبدأوا العزف، قبل أن يداهم الظلام الأروقة،
فيتسلل الشبح من خلاله بلا عائق.
رؤيا الشقراء مارغريت
عاودت الظهور وهي تؤدي أوبرا جديدة
عند نافذتها استيقظ جوع جديد مريع
داخل الصدّاح الجائع أصلا.
لكن الجوع هو مجرد موضوع آخر، مثل «فاوست» جديد
ينساب من خلال جحور الأوبرا
(بحثا عن العمر القديم الضائع؟
فقد بدأوا يلاحظون وميضاً في عينيه.
ضوء النهار يعاود الظهور
عند النافذة التي خلفه،
هي نفسها نافذة شبحية،
رسمها رسامو المشاهد الشبحيون،
المرضى من الجوع، الذين لم يتقاضوا أجرا
لمشهد أقل من صغير،
الراقصون يعاودون الظهور، بكيس رمل يسقط مثل نوتة في «فاوست»
خلال الهواء الأرجواني.. بدأ المتفرجون
يفهمون الصدّاح المدمّى، نجم الأوبرا).
تلك الليلة امتلأت الأوبرا حتى السطح
تلقى الشبح تسعة وعشرين نداء «ابدأ»! «ابدأ»!
في الأجنحة، كان الصداحّ جائعا لقبلة البطلة المتشنجة،
وكان فاوست يمضي قدما، لم يعد شاباً،
ويعاود.. يعاد الظهور للمرة الأخيرة.
الأوبرا لم تعد تحتاج شبحها.
على المسرح العاري، المشمس، قد يبدأ الجوع.
(ترجمة: ف.س)