إميل أمين
كاتب مصري
TT

مسارات السلام... الحوار هو الحل

«الأديان مكلفة بإحلال السلام؛ ولذلك لا يمكن أن يكون هناك تبرير للحرب والعنف باسم دين ما»... بهذه العبارة افتتحت المستشارة الألمانية نهار العاشر من سبتمبر (أيلول) الحالي أعمال مؤتمر «مسارات السلام» الذي رعته مؤسسة «سانت ايجيدو» الكاثوليكية الهوية، في مدينة مونستر غرب ألمانيا.
يمكن القطع بأن المستشارة، وفي كلمتها الافتتاحية، قد وضعت يدها على «بيت الداء» في التفكير العالمي الذي قاد ويقود إلى حالة التنازع، ولا سيما لدى أتباع الأديان؛ إذ طالبت بالتصدي لفكرة «احتكار الدين من قبل الذين سمتهم بأنهم يطأون كرامة الإنسان بالأقدام»، أي ملاّك الحقيقة المطلقة.
لم يكن بابا الفاتيكان فرنسيس ليغيب عن هذه الفعالية ذات الأهمية المقدرة؛ إذ وجّه بدوره رسالة مطولة للمجتمعين هناك، أشار فيها إلى أنه بالإضافة إلى المسؤولين السياسيين والمدنيين الذين ينبغي عليهم أن يعززوا السلام من أجل الجميع، فإن الأديان اليوم وفي المستقبل مدعوة لتجيب عن هذا العطش، من خلال الصلاة والالتزام الملموس المتواضع والبناء، وتحدد وتفتح سبل سلام من دون كلل من جميع الرجال والنساء ذوي الإرادة الصالحة.
بدورها، كانت المملكة العربية السعودية حاضرة وفاعلة في المؤتمر وممثلة في السيد فيصل بن معمر، الأمين العام لمركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات «كايسيد»، الذي دعا في كلمته عبر الجلسة الخاصة بمناقشة «تحديات العيش المشترك»، خصوصاً في المجتمعات المتنوعة دينياً، إلى تفعيل الحوار بين الأفراد والمؤسسات وصانعي السياسات؛ من أجل تقديم المساعدة المناسبة للاجئين للتعايش والتفاهم في مجتمعاتهم الجديدة التي وصفها بالتحدي الإنساني الأكثر إلحاحاً على مستوى لم يره العالم منذ الحرب العالمية الثانية.
تؤمن «كايسيد»، وكما قال السيد فيصل بن معمر، بأنه عندما نعمل بمعزل عن بعضنا البعض فإنه لا يمكننا أن نرى أو نحل سوى جزء من المشكلة... ولذلك إن أردنا بالفعل تعبيد مسارات للسلام حول العالم، فإنه لا بد من مضاعفة الجهود لتعزيز التعاون في كل المجالات نحو أهداف موحدة، والتأكد من أن كلاً منهم يستخدم نقاط قوته بفعالية، مشدداً على أن في التعاون والحوار قوة، ولا يمكننا أن نهزم التطرف والإرهاب والفقر والكراهية إلا بتوحيد الصفوف، وترسيخ التفاهم والثقة بين المجتمعات المتنوعة، وحماية الذين يتعرضون للاضطهاد والتشريد من شرور الإرهابيين والمتطرفين.
والشاهد أن تجربة «كايسيد»، التي يدعمها بعزم لا يلين خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، قد أثبتت بالتجربة الناجحة أن الحوار المصحوب بالإرادة الصالحة الساعية للسلام، هو أحد أهم الطرق لتغيير المعادلة الدولية البائسة التي روّج لها البعض في العقدين الماضيين حين قسموا العالم بين الذين معنا والذين علينا، وخير دليل على ذلك نجاح تجربة «مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات» في نيجيريا؛ وذلك حين تضافرت جهود السلطان محمد سعد أبو بكر، والكاردينال أونيكان بعد أن جمعتهما منصة حوارية ومظلة للمواطنة المشتركة؛ ما باعد من شبح الحرب والمواجهات الدموية هناك، وعزز من فرص التعايش السلمي المشترك.
أهمية المؤتمر أنه شهد رؤى قادة دينيين لهم أوزان حقيقية، ومنهم الدكتور أحمد الطيب، شيخ الجامع الأزهر، الذي رأى أن «مسارات السلام» تجابه اليوم بالضعف الأخلاقي الذي يلف البشرية؛ وعليه فالحل يتمثل في أخلاق إنسانية عامة عابرة للقارات، مُجمَع عليها من الشرق والغرب؛ منظومة رفيعة من المبادئ والمثل لا بد أن تسود عالمنا المعاصر، وتحكم مسيرته وتكون بديلاً للأخلاق المهترئة التي تظلل تيارات الشباب حول الكرة الأرضية، وتجعل الافتراق أيسر من الاتفاق، وسهولة البحث عن الإجابات أيسر كثيراً من الدرس المعمق للأسئلة الجذرية، وهذه إشكالية الأصولية في جميع الأديان والمذاهب أنها تبحث عن إجابات سهلة لأسئلة وقضايا معقدة.
لقد أحسن البيان الختامي حين أشار إلى أن «العولمة وحّدت اقتصادات وأسواقاً وليس القلوب»؛ لذا يجب علينا أن نعيش الوحدة الروحية في ظل احترام التنوع والحوار دائماً من دون عزل أي شخص»، وقد وقر لدى القائمين على البيان عينه أنه لتحقيق السلام «نحن في حاجة إلى التغلب على الخوف والتحامل، وهذا ما يسألنا إياه متواضعو الأرض وفقراؤها»، ويطلبه منا ضحايا العنف دون رحمة.
يتقاطع الإرهاب جدياً وجذرياً مع «مسارات السلام»؛ لذلك علا الصوت هناك عن قناعة برفض الإرهاب الذي قتل عدداً كبيراً من الأبرياء شمال المسكونة وجنوبها....
إرادة المجتمعين في مونستر أكدت، وهذا هو الأهم، أن «المؤمنين يمكنهم فعل الكثير وأكثر مما نتصور، الصلاة والبقاء معاً، ومقاومة هيمنة الاستسلام واللامبالاة؛ ولهذا لن يكلّ أحد من القول بأن أي شخص يستغل اسم الله لتبرير الإرهاب والعنف والحرب لا يسير في طريقه، وأن الطريق التي يجب سلوكها اليوم هي السلام».
أحلى الكلام... لتضئ فينا أنوار السلام حين تسود ظلمات الحقد، ولتتعمق فينا الرغبة لهدم الجدران وبناء الجسور.