طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

رحل مرتين

تعود الموسيقار محمد عبد الوهاب قبل رحلات سفره إلى الخارج التي كانت تمتد في الأربعينات لعدة أشهر من كل عام سواء أكان مقصده بيروت أم باريس، أن يكون حريصاً على أن يظل أيضاً موجوداً في القاهرة، وذلك بأن تواصل الإذاعة تقديم أغانيه والصحافة نشر أخباره وبكثافة، كان يتأكد عن طريق الاتصال اليومي بسكرتيره رؤوف ذهني أن الأمور كلها تؤكد حضوره.
السيطرة على الضوء قبل عصر المحمول والفضائيات أسهل بكثير مما يحدث الآن، نتحدث عن إذاعات محدودة وصحف أقل من أصابع اليد الواحدة، كان برنامجاً واحداً مثل «ما يطلبه المستمعون» مؤشراً لنجاح أو فشل الأغنية، ملحوظة لدينا الآن نحو 1500 فضائية، ناهيك عن عشرات إن لم يكن مئات من الإذاعات الخاصة والعامة.
لا يمكن أن يحيا النجوم بعيداً عن «الميديا»، فإذا كانت النحلة تعيش على رحيق الزهور، فإن الفنان لا يتنفس إلا في وهج الضوء، اسمه وصورته في الإعلام هو الذي يؤكد أنه لا يزال حياً يرزق.
أعرف نجمة لم تعد على الخريطة وتضاءل كثيراً رنين هاتفها «الجوال»، حدث مؤخراً أن شركة إنتاج طلبتها، فتهللت أساريرها، وخاطبت الصحافيين لنشر الخبر، وإمعاناً في الإثارة قالت إنها في طريقها لإحدى الدول الأوروبية لكي تقرأ في هدوء السيناريو، كل أمالها في العودة للصدارة تجددت، وعاشت فيها وحتى اللحظات الأخيرة وكأنها في أحلام اليقظة، حتى جاءتها رسالة بـ«الواتساب» اكتشفت من خلالها أن شركة الإنتاج تريد استغلالها، ولم يكتفوا بأن يطلبوا منها مثلاً أن تشارك بأجرها، ولكنهم طالبوها بالمشاركة في تحمل نفقات الإنتاج.
على الفور أيقنت أنهم يريدون اصطيادها، فقررت أن تمارس هي أيضاً قدراً من الدهاء وتصطادهم ووعدتهم بالتفكير، ثم نشرت خبراً أوضحت أنها اعتذرت عن الدور لأنه لن يضيف إليها ولا إلى تاريخها، ووصلت الرسالة لجمهورها أقصد بقايا الجمهور الذين لا يزالون على العهد بأنها مطلوبة.
الكل يبحث عن تلك البقعة، وعندما تسألهم لن يقولوا أبداً الحقيقة، سيغلفون كل شيء بقدر من الزهد والاستغناء، النجم غالباً في لحظات الأفول ما يفكر في الإنتاج لنفسه، حتى يظل في الدائرة، وهو يعلم أنه لن يكسب أموالاً، إلا أنه يحاول تقليل الخسائر، معتبراً أن الفيلم السينمائي بمثابة التنفس الصناعي، لأنه سوف يتردد اسمه في الأخبار، وتنشر صورته في مهرجان أو ندوة.
الأمر ليس قاصراً على النجوم فقط، هناك مخرج لم يعد مطلوباً في سوق الدراما فتجده يطالب الدولة بالتدخل لإنتاج الأعمال الهادفة والوطنية، بحجة أن القطاع الخاص لن يُقبل عليها، والكل يعلم أنه ينتظر أن تمنحه الدولة مسلسلاً من إنتاجها حتى يسند لزوجته دور البطولة، ويحل مشكلته العائلية فهي ليست أبداً على الإطلاق قضية وطنية.
الضعف أمام الضوء مرض مستشرٍ بين قطاع وافر من الفنانين، أتذكر مرة مخرجاً قبل زمن «الجوال» والفضائيات في مطلع التسعينات، ورغم وقوفه خلف الكاميرا فإنه كان مولعاً بالشهرة، وفي لحظات وجد نفسه بعيداً عن الإعلام، فأشاع عن نفسه أنه قد مات وترك شقته في القاهرة متجهاً إلى الإسكندرية، وسرت الشائعة وتناقلتها الإذاعة والجرائد ليعود في المساء، مهدداً بإقامة دعوى قضائية ضد من أشاعوا موته، وهكذا عاد للضوء مرتين الأولى عند كتابة خبر رحيله المزعوم والثانية عند التكذيب، وبعد رحيله الحقيقي عن الدنيا كتبت مقالاً عنوانه: «المخرج الذي رحل مرتين»!