صالح القلاب
كاتب أردني. وزير إعلام ووزير ثقافة ووزير دولة سابق، وعضو سابق في مجلس أمناء المجموعة السّعوديّة للأبحاث والتّسويق.
TT

«فتح» و«حماس» والخوف من مصير اتفاق مكة المكرمة!

تفاءلوا بالخير تجدوه، لكن في العمل السياسي، خصوصاً بالنسبة لأوضاع كالأوضاع الفلسطينية التي بحكم عوامل كثيرة تخضع لتأثيرات متعددة، عربية وغير عربية، لا مجال إطلاقاً للتفاؤل والتشاؤم، فالأمور تحسمها الحقائق المؤكدة، وهذا ينطبق على ما جرى أخيراً بين حركتي «فتح» و«حماس»، بجهود مصرية، حيث تم الاتفاق على تنفيذ اتفاق القاهرة وملحقاته، الذي كان قد أُبرم بين هاتين الحركتين في القاهرة، في عام 2011.
وللتخلص من كل ما ترتب على ذلك الانقلاب العسكري الذي نفذته «حماس» في عام 2007، فإن الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) قد أصرَّ على أن يكون البدء بتطبيق هذا الاتفاق بحل ما يسمى «اللجنة الإدارية»، التي هي في حقيقة الأمر حكومة «حركة المقاومة الإسلامية»، البديلة للحكومة الشرعية التي أسقطها الانقلاب الدموي آنف الذكر، الذي لا يزال يوصف بأنه كان أبشع ما شهدته نزاعات التنظيمات الفلسطينية وخلافاتها. وهكذا، فقد بادرت «حماس» إلى حلِّ هذه اللجنة الإدارية، لكن بما أن الشياطين تكمن في التفاصيل، فإن مجرد هذا الحل ليس كافياً، وهو لا يعني أن هذه الخطوة غدت على برِّ الأمان، ما دامت «فتح» تصر على أنَّ برنامج حكومة الوحدة الوطنية هو برنامج منظمة التحرير، في حين أن حركة المقاومة الإسلامية تصر على بعض التعديلات الإضافية على هذا البرنامج الذي مرَّ عليه حتى الآن أكثر من ستة أعوام شهدت مستجدات كثيرة، إنْ على الصعيد الفلسطيني، وإنْ على الصعيد العربي والإقليمي والدولي.
ربما هناك، حتى بين الفلسطينيين، من يرى أن هذه مسألة شكلية، وأنه غير مهم كثيراً أن يبقى برنامج حكومة الوحدة الوطنية هو برنامج منظمة التحرير، كما تريد حركة «فتح»، أو تجرى عليه «تعديلات» و«إضافات» جديدة، كما تطالب حركة «حماس». وحقيقة، إن هذه المسألة هي الأكثر «خلافية» بين هاتين الحركتين، والسبب هو أن بقاء برنامج حكومة الوحدة الوطنية هو برنامج منظمة التحرير، كما تريد قيادات حركة «فتح»، يعني عملياً الاستمرار بعملية السلام على أساس «اتفاقيات أوسلو» الشهيرة.
وحقيقة، إنَّ هذا الإشكال هو أصعب إشكالات هذا الاتفاق، ولذلك فقد تُركت معالجته لاجتماعات لاحقة بين هاتين الحركتين الفلسطينيتين في مصر، من المفترض أن تشارك فيها باقي الفصائل الفلسطينية، خصوصاً الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والجبهة الديمقراطية بقيادة نايف حواتمة، والحزب الشيوعي الفلسطيني، حيث إن باقي ما تبقى هو مجرد أسماء ليس أكثر، كـ«جبهة التحرير العربية» و«طلائع حرب التحرير الشعبية - الصاعقة» و«الجبهة الشعبية - القيادة العامة - أحمد جبريل». لقد مرَّ على سيطرة «حماس» على قطاع غزة أكثر من عشرة أعوام، وقد ثبت بالنتيجة أن هذه الحركة، المتكئة على إرث الإخوان المسلمين الذين فشلوا فشلاً ذريعاً في الاحتفاظ بحكمهم لمصر، مهيأة للهدم أكثر مما هي مهيأة للبناء، وأنها رغم كل الأموال التي انهالت عليها، من إيران ومن بعض الدول الخليجية، قد أخفقت في معالجة مشكلات الفلسطينيين في هذا القطاع. وبالتالي، فإنه لم يعد أمامها إلا العودة إلى حركة «فتح» التي كانت قد قالت فيها أكثر مما قاله مالك في الخمر، والتي كانت قد رمت أعضاءها ومنتسبيها في انقلاب عام 2007 من فوق الأبراج العالية، وبطرق بدائية لم تكن قد عرفتها أي صراعات فلسطينية سابقة.
وهنا، فإن ما يجب الإشارة إليه أيضاً هو أن حركة «حماس» أصبحت أكثر واقعية بعد هذه التجربة، أي تجربة نحو عشرة أعوام من التخبط والتمحورات والانقسامات الداخلية والصراع المتعاظم بين قيادات الداخل وقيادات الخارج، وبين ما يسمى الجناح العسكري التابع عملياً لمصادر تمويله السخي، والجناح المدني الذي أظهر التزاماً بسياسة الأمر الواقع، واقترب كثيراً من مصر ومواقفها وصدامها مع إرهابيي جماعة الإخوان. ولذلك، فإنها لم تجد مناصاً من الاستجابة للإملاءات المصرية، والموافقة على هذه الحلول التي كانت تتملص من تنفيذها، خصوصاً في عام 2011. وبالطبع، وهذا يجب أن يقال، رغم صعوبة قوله، فإنَّ «فتح» قد أصبحت هي بدورها مأزومة، نظراً لإحساسها بفشل اتفاقيات أوسلو وعملية السلام، واستمرار الإسرائيليين، خصوصاً في عهد هذه الحكومة، حكومة بنيامين نتنياهو، بقضم الأراضي الفلسطينية المحتلة، خصوصاً في الضفة الغربية، ولشعورها (أي حركة التحرير الوطني الفلسطيني) بأنها أصبحت مصابة بالشيخوخة وبالترهل. وبالتالي، فإن عليها أن تتخلى عن كبريائها، وتمد يدها إلى «حماس» رغم انقلابها الدموي عليها في عام 2007، ورغم أنها بقيت تطاردها بالمبادرات التوحيدية والتنسيقية، دون أي جدوى، وبلا أي استجابة. ثم وفوق هذا كله، فإن الرئيس الفلسطيني محمود عباس قد غدا أكثر استعداداً لتقديم المزيد من التنازلات لهذه الحركة المنافسة، للتخلص من تهمة الإسرائيليين للفلسطينيين بأنهم ينقسمون على أنفسهم، وأن إسرائيل لا تعرف مع مَنْ مِنْ هذين الطرفين المتناحرين تعقد اتفاق السلام الذي يضغط العالم كله عليها من أجل توقيعه، للتخلص من هذا الصراع الذي استطال أكثر من اللازم، والذي بات يعتبر أطول صراع عرفته الكرة الأرضية.
إنَّ هذا جانب، وأما الجانب الآخر الذي جعل حركتي «فتح» و«حماس» مجبرتين على القبول بهذا الاتفاق، فهو أن مصر غدت أكثر حسماً إزاء هذه المسألة، وذلك لأن هذا الانقسام الفلسطيني قد أدى مع عامل الوقت إلى أن يصبح قطاع غزة عبئاً كبيراً على الأمن المصري، بينما باتت القوات المصرية تخوض حرباً ضروساً فعلية مع الإرهاب «الإخواني» الذي تعاظم إسناده بعد انفجار الأزمة القطرية. وهكذا، فإنه لم يعد هناك أي مجال للإبقاء على الوضع الفلسطيني كما بقي عليه منذ انقلاب عام 2007. وعلى اعتبار أنه لن يكون هناك إذعان من قبل هاتين الحركتين، فإن القاهرة ستضطر لأخذ الأمور بيدها، وقد تعود للسيطرة المباشرة على هذا القطاع، على غرار ما كانت عليه الأمور قبل احتلال يونيو (حزيران) عام 1967.
والسؤال هنا، بعد كل هذا الاستعراض، وإيراد كل هذه الحقائق، هو: هل «حماس» يا ترى ستبقى ملتزمة بهذا الاتفاق، وتقبل أن تكون قوة عادية في حركة النضال الفلسطيني، وجزءاً من منظمة التحرير، مثلها مثل غيرها، أم أنها ستعود إلى نهجها السابق، فيصبح مصير هذا الاتفاق كمصير اتفاق مكة المكرمة، ومصير اتفاق عام 2011، واتفاق عام 2014، وبالتالي فإنَّ كل ما جرى في هذا الأسبوع الأخير سيصبح مجرد قفزة في الهواء، وستعود حليمة إلى عادتها القديمة؟!
ولذلك، وفي النهاية، وفي كل الحالات، فإنه لا بد من الأخذ بعين الاعتبار أن مشكلة «حماس» الأساسية والفعلية هي أنها لا تزال ترتبط بالتنظيم العالمي للإخوان المسلمين، وأنها متمسكة بعلاقاتها التاريخية بـ«إخوان» مصر، وأنَّ لها قيادة في الخارج، على رأسها خالد مشعل، مقابل قيادتها في الداخل، التي على رأسها إسماعيل هنية؛ وكل هذا بالإضافة إلى انقسامها إلى تيارين؛ هما هذا التيار المتفاهم مع مصر، الذي على رأسه موسى أبو مرزوق، وذلك التيار المتشدد المرتبط بحراس الثورة الإيرانية وبحسن نصر الله، الذي يطلق على نفسه اسم التيار العسكري، حيث يواصل رموزه التنقل بين ضاحية بيروت الجنوبية وطهران.