عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

أكذوبة «الجهاد الداعشي»

مارات (أو مراد)، شاب من جمهورية داغستان في روسيا الاتحادية، خدعته دعايات «داعش» وأوهام دولتها الإسلامية المزعومة، فترك زوجته الحامل وسافر للالتحاق بالتنظيم والقتال في صفوفه بسوريا. لكنه بعد فترة قرر الهرب والعودة إلى بلاده بعد أن اكتشف وهم، أو بالأحرى أكذوبة «الجهاد الداعشي». وكما قال في لقاء مع هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) بث هذا الشهر: «أدركت خطأي عندما توصلت إلى أن ما يجري ليس جهاداً، بل قتال بين مسلمين... مجموعة من المسلمين تقاتل مجموعة أخرى من المسلمين».
مثل كثيرين من الذين انضموا إلى «داعش»، ذكر مراد أن الخطب الحماسية والتحريضية من أحد الأئمة هي التي دفعته للسفر إلى سوريا خصوصاً بعد مشاهدة الكثير من الفيديوهات على الإنترنت. لكنه خلافاً لآخرين قرر بعد أن اكتشف خطأه، أن يواجه مخاطرة الهروب من «داعش» بدلاً من البقاء مرغماً وخائفاً ليواجه في النهاية احتمالات الموت في قتال لم يعد مقتنعاً به. فكثيرون ممن انضموا إلى «داعش» واكتشفوا لاحقاً أنهم ضللوا، وجدوا أنفسهم في ورطة وأمام خيارات تبدو كلها صعبة؛ ذلك أن محاولة الهروب قد تعني الموت، لأن التنظيم يمنع المغادرة ولا يرحم من يريد ترك صفوفه، أما البقاء فإنه أيضاً قد يعني الموت في القتال أو في عمليات انتحارية يجبر الشخص على تنفيذها أو يغسل دماغه للقيام بها. وحتى إذا نجح الشخص في الهرب فإنه يواجه الاعتقال والسجن.
قصة مراد تؤكد أمراً بات معروفاً، وهو حجم التضليل وغسل الدماغ الذي يتعرض له كثير من الشباب الذين يلتحقون بحركات التطرف والإرهاب للقتال في صفوفها، أو لتنفيذ عمليات إرهابية باسمها. صحيح أن هناك عوامل أخرى تتداخل في عمليات الاستقطاب والتجنيد للحركات الإرهابية، لكن تبقى فتاوى وخطب التحريض من أئمة التطرف وشيوخ الإرهاب، إضافة إلى الفيديوهات الدعائية والتعبوية التي تبثها مواقع حركات التطرف والإرهاب، هي العامل الأخطر والأكثر تأثيراً.
كثير من الشباب الذين يتوجهون للقتال في صفوف «داعش» و«القاعدة»، أو الذين يقومون بعمليات إرهابية تحت تأثيرها، ليسوا متبحرين في الدين بالضرورة، بل ينجرون بفعل العاطفة أو الحماس، أو تحت ضغط اليأس أو الضجر، وراء تأثيرات خطب وفتاوى المتطرفين، والفيديوهات التي تبثها حركات مثل «داعش» و«القاعدة» لاستقطابهم إلى ساحات القتال أو تنفيذ عمليات إرهابية. في حالات بعض منفذي الهجمات الإرهابية في أوروبا تبين أن بعضهم تحول في فترة وجيزة من شخص غير متدين بتاتاً إلى متطرف مستعد لارتكاب فظائع باسم الدين. بل إن بعض هؤلاء، مثل أفراد الخلايا التي نفذت عمليات إرهابية في بلجيكا وفرنسا، كان لديهم سجل إجرامي في قضايا مخدرات أو سرقات وعنف.
هناك معركة فكرية تخوضها الحكومات والجهات المهتمة بدحر الإرهاب، بالتوازي مع المعارك العسكرية والأمنية. وقد حققت هذه المعارك نتائج واضحة، لكن تبقى الساحة التي تشكل التحدي الأكبر في مواجهة فكر وإعلام التضليل والتجنيد هي الإنترنت بلا شك. لهذا السبب هناك ضغوط متزايدة على الشركات الكبرى في مجال الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«يوتيوب»، لكي تتحمل مسؤولياتها وتفعل المزيد لحجب مواد التحريض على الكراهية والإرهاب التي يجري بثها وتداولها عبر هذه المواقع، خصوصاً بعدما أصبحت شبكة الإنترنت ساحة أساسية لاستقطاب الشباب وتجنيدهم عبر المواد التحريضية والدعائية التي تبثها جماعات التطرف وحركات الإرهاب.
رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، اللذان شهدت بلادهما سلسلة من الهجمات الإرهابية أخيراً التقيا على هامش مشاركتهما في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك مع رؤساء وممثلي شركات مثل «غوغل» و«فيسبوك» و«مايكروسوفت»، لحثها على القيام بالمزيد في جهود محاربة الإرهاب. فوفقاً لوزارة الداخلية البريطانية فإن «داعش» نشر 27 ألف رابط لمواد إرهابية على النت خلال الأشهر الخمسة الأولى من هذا العام، وأن هذه المواد بقيت على الإنترنت لمدة 17 ساعة في المعدل قبل حجبها. وتريد الحكومات من الشركات حجب هذه المواد خلال وقت أقصر، أي في حدود ساعتين أو أقل إن أمكن، والعمل على تطوير برامج تتعرف على مثل هذه المواد الإرهابية بشكل فوري وتحجبها قبل أن تنشر على الإنترنت.
الشركات من جانبها تحاول الدفاع عن نفسها بالتأكيد على أنها تبذل جهدها لتطوير وسائل تمكنها من التصدي بفعالية أكبر لمواد وفيديوهات الإرهاب. فقد أعلنت «غوغل» و«يوتيوب» و«فيسبوك» أنها تعزز جهودها لتطوير تكنولوجيا التعرف أوتوماتيكياً على المواد الإرهابية لحجبها قبل البث. «تويتر» من جانبها أعلنت أنها حظرت أكثر من 300 ألف حساب خلال الفترة من يناير (كانون الثاني) وحتى يونيو (حزيران) من العام الحالي.
قصة مراد الداغستاني أو قصة كثير من الشباب الذين وقعوا ضحية دعايات شيوخ التطرف والإرهاب، وتأثروا بحجم الدعاية والتحريض في الإنترنت، تؤكد أهمية هذه الجهود الجارية لضبط ساحة الفضاء الإنترنتي.