سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

حرب المطابخ

لن أستطيع أن أشرح لنفسي تعقيدات هذا العالم ما دمت لا أفهم تعقيدات البشر. تركنا ذلك لعلماء النفس وعلماء الاجتماع. وهم يدركون حتماً، كم هي مهمة شاقة وبعيدة. الآن نقرأ المزيد عن أن أحد أمضى أسلحة الحرب الباردة كان المطبخ، وليس الرؤوس النووية. عام 1950 نقلت الخارجية الأميركية إلى معرض في برلين الغربية مطبخاً نموذجياً، فيه غسالة آلية وثلاجة وطباخ كهربائي! وتدفق الزوار على المشهد العجيب من كل ناحية، خصوصاً من برلين الشرقية. وعام 1959 أقامت موسكو معرضاً دولياً فأرسل الأميركيون أفضل ما لديهم: المطبخ! وفي ذلك الجناح، دارت إحدى أشهر النقاشات حول الشيوعية والرأسمالية، بين الزعيم السوفياتي نيكيتا خروشوف ونائب الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون.
كانت حجة الأميركيين أن حسنات التقدم الرأسمالي هو أيضاً في متناول الجميع. والآن نعرف كذلك أن فنادق «هيلتون» كانت بدورها جزءاً من تلك الحرب. فقد كان كونراد هيلتون كاثوليكياً متديناً ومعادياً للإلحاد، وأراد أن ينقل إلى أوروبا والشرق الأوسط صورة عن «الحياة الأميركية»، ومن جملة ما شيد يومها، «النيل هيلتون» في القاهرة و«هيلتون طهران».
وتضايق اليسار الأوروبي من هذا الأسلوب في التسلل إلى نفوس الناس، فكتب الشاعر الشيوعي الفرنسي لويس أراغون أن أميركا تعرض «حضارة الثلاجات وأحواض الحمامات». لكن هذه القوة الناعمة كانت قد تركت أثرها في كل مكان. وصارت أوروبا «تنزل» في «الهيلتون» وتشرب الكوكاكولا، وتصغي إلى إلفيس برسلي، وتركب سيارات «فورد»، بينما يذهب السوفيات إلى الفضاء، أما هنا فيصنعون أسوأ سيارات على الأرض. وبسبب رخص اليد العاملة في أوروبا، أقامت شركات السيارات الأميركية مصانع لها في أنحاء القارة، وأغرقت أسواقها بها وبسائر المنتجات.
كانت أميركا تقدم «طريقتها في الحياة» والشيوعية تفرض التقشف باسم المستقبل. وكان أراغون، من دون شك، أحد أكبر شعراء فرنسا. لكن في الوقت الذي رفض «حضارة الثلاجات» كان يعرض على مواطنيه مدائح ستالين.
رد السوفيات وحلفاؤهم بالهجوم المباشر والعنف وتسخيف الخصم الغربي. واستمر الغربيون في استخدام الأسلوب غير المباشر وتقديم «العينات» الجذابة. لجأوا إلى السينما والمسرح ودور النشر والمطبوعات التي تخفي هويتها وتمويلها خلف قناع شفاف. ولم يتعلم السوفيات الدرس. وظلوا ينتجون أفلاماً متخلفة، وصحافة محجَّرة، ويطرحون القضايا العادلة في لغة خشبية من أوائل القرن. وقد ورث بعض العرب هذه البلادة، وتفوقوا فيها. ولا يزال بعض المحمومين والمحرورين يلعقون العصر في ملاعق من حطب.