عبدالله بن بجاد العتيبي
كاتب سعودي مهتم بالحركات الإسلامية والتغيرات في الدول العربية، وله عدة مؤلفات حول ذلك منها «ضد الربيع العربي» وله أبحاث منها: «القابلية للعنف والقيم البدوية»، نشر في 2006. و«السرورية» 2007. و«الولاء والبراء، آيديولوجية المعارضة السياسية في الإسلام» 2007. و«الإخوان المسلمون والسعودية الهجرة والعلاقة» 2010. قدم عدداً من الأوراق البحثية للعديد من مراكز الدراسات والصحف. شارك في العديد من المؤتمرات والندوات، وهو خريج جامعة المقاصد في بيروت في تخصص الدراسات الإسلامية.
TT

السعودية: عيد الوطن وعيد المستقبل

احتفلت المملكة العربية السعودية أمس، السبت، بعيدها الوطني السابع والثمانين في مسيرةٍ حافلةٍ بعبق التاريخ وملاحم التأسيس والتوحيد ومنجزات دولةٍ حديثةٍ تعاقب على قيادتها أبناء المؤسس بكل عزيمةٍ واقتدار، وصولاً لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان وولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان.
الدولة والشعب، الوطن والمواطن، التاريخ والجغرافيا، كلها تحتفل بالسعودية وبرحلة النجاح ومسيرة الاستقرار السياسي، وقوافل الأمن والأمان، ومعجزات التنمية والبناء، وثلاثمائة عامٍ من دولةٍ تعايشت مع كل التحديات وتجاوزتها جميعاً.
الأكثر أهمية اليوم هو أن السعودية تنطلق إلى مستقبلٍ زاهٍ بحكمة المليك وحنكة ولي العهد، وأنها تمتلك رؤيةً مستقبليةً معلنةً ومنشورةً هي «رؤية 2030» وبرامج متعددة مساندةٍ لتحقيقها مع مرونةٍ عاليةٍ في مواجهة أي تحدياتٍ قد تطرأ في المستقبل، فهي ترسيخٌ للمشروعية والاستقرار لعقودٍ في المستقبل.
تحتفل السعودية بيومها الوطني وهي تجدد شبابها وتزيد قوتها وتفرض نفسها لاعباً كبيراً في المشهدين الإقليمي والدولي، فهي قائدة الدول العربية ورائدة شعوبها في الدفاع عن حقوق شعبها ومصالحها الوطنية وفي الوقوف إلى جانب الدول العربية وشعوبها في صد الأعداء والخصوم ودعم الاستقرار والتنمية.
تجدد شبابها حكومةً وشعباً، فالشباب السعودي يمثل ما يزيد على خمسةٍ وستين في المائة من الشعب، وولي العهد في عقده الثالث، والكثير من المناصب المهمة والمهمات الجلّى يتم إسنادها للشباب من الأسرة ومن الشعب، فطاقة الشباب هي المحرك لبناء الأوطان والضامن لمسيرةٍ تنطلق في المستقبل وتتجدد به وله.
»سلمان الحزم» لم يكن لقباً فحسب، بل حكاية للواقع، فالقوة العاقلة ليست سوى تجسيدٍ واقعي لما يمكن أن تصنعه السعودية الجديدة والمتجددة من واقعٍ جديدٍ يجبر الجميع على احترام خياراتها وقوتها ومكانتها، فالسعودية تحارب بالقوة الخشنة في اليمن ضمن تحالفٍ عربي في «عاصفة الحزم» وبالقوة الناعمة في «إعادة الأمل».
وهي ثاني أهم شريكٍ في التحالف الدولي ضد تنظيم داعش بعد الولايات المتحدة، كما أنها بنت تحالف الدول المسلمة ضد الإرهاب والذي تشارك فيه أكثر من أربعين دولةً حول العالم ومقره الرياض، ولا شيء يعزز المكانة مثل الشراكات والتحالفات الناجحة.
تجاوزت السعودية وبقوةٍ تحديات إدارة أميركية كانت نصيراً لكل خصوم السعودية في المنطقة، في الملف النووي الإيراني وفي الموقف من جماعة الإخوان المسلمين المصنفة إرهابيةً في السعودية والمدعومة من إدارة أوباما، وفي الموقف من جماعات الإرهاب السنية والشيعية، التي لم يبدُ أن تلك الإدارة توليها الاهتمام الذي تستحقه، وبنت من بعد علاقاتٍ متينةٍ مع أقوى دولةٍ في العالم وأكبر حليفٍ للسعودية من خلال إدارة الرئيس أوباما.
في هذا العيد الوطني السابع والثمانين أصبح مفهوم الوطن محلّ احتفاءٍ ومركز تفكيرٍ ومصب ولاءٍ كما لم يكن على مدى عقودٍ أربعةٍ سلفت حين كان مفهوم الوطن مزاحماً بآيديولوجياتٍ تناقضه، كالقومية العربية والناصرية والبعثية أو تيارات اليسار، ومن بعد ورثتهم من آيديولوجيات وتيارات الإسلام السياسي، وهذه الأخيرة كان لها حضورٌ كبيرٌ ومؤثرٌ في الداخل السعودية لأسباب متعددةٍ منها التاريخي والديني والسياسي والاقتصادي والثقافي وغيرها.
كان الوطن في آيديولوجية الإسلام السياسي وكل تياراته في أقل الأحوال غير مرغوبٍ فيه إن لم نقل إنه كان مفهوماً متهماً ومحارباً في بعض تلك الآيديولوجيات والخطابات، كان الولاء يصرف للأمة لا للوطن وللجماعة والتنظيم لا للدولة، وكان غالبية رموز وكوادر الإسلام السياسي يتقلدون «بيعةً» دينيةً لمرشد الجماعة أو قائد التنظيم تناقض «بيعة» ولي الأمر والقائد السياسي للوطن.
تغلغل جماعات الإسلام السياسي في مؤسسات الدولة ثابتٌ مشتركٌ في كل دولةٍ وصلت لها هذه الجماعات أو وجدت لها فيها موطئ قدمٍ، وهو ما جرى في السعودية كما جرى في غيرها، وكانت إحدى مهام هذه الجماعات الكبرى تكمن في التربية والتعليم، حيث يسعون من وراء ذلك لاعتقال أذهان الأجيال في كل بلدٍ، ومن أخطر ما يقدمونه للطلاب التقليل من قيمة الوطن وعدم الاحتفاء الواجب به، في المناهج وفي الأنشطة اللاصفية وفي المخيمات الصيفية.
يحتفل طلاب السعودية اليوم بالنشيد الوطني كل صباحٍ، ويجتهدون في الدراسة لخدمة الوطن الحلم الذي عاد ليملأ أذهانهم وللمشاركة في بناء مستقبله وتنميته والمشاركة في رعايته وحمايته، فلا شيء يقتل الدعايات الآيديولوجية من ترسيخ الوطن في عقول وقلوب الشباب بناة المستقبل وحداة الأمل.
الدبلوماسية السعودية النشطة تتحرك في كل مكانٍ من العالم بشكلٍ غير مسبوقٍ، وتدخل في كل الملفات المهمة في المنطقة والعالم، والقوة السعودية الناعمة تثبت حضوراً مكثفاً في نيويورك في الأسبوع الماضي تزامناً مع اجتماعات الأمم المتحدة، بمؤتمراتٍ وندواتٍ وحواراتٍ مكثفةٍ ومهمةٍ وتوصل رسالةً واضحةً عن السعودية الدولة الحديثة التي ترعى التسامح وتدفع باتجاه التطوير والمستقبل.
القوات المسلحة السعودية تثبت نفسها كقوةٍ فاعلةٍ لحماية الوطن ومصالحه، وهي تقاتل بفعالية كاملةٍ في اليمن مع الشرعية، وهي تطوّر نفسها وتطوّر التصنيع العسكري وتتقدم بخطى ثابتةٍ، والقوات الأمنية الضاربة لتعزيز الأمن تطوّر نفسها وتعيد هيكلة بعض قطاعاتها استعداداً لمزيدٍ من النجاحات وترسيخ الأمان.
حين يصبح الوطن أنشودةً لكل مواطنيه، وحلماً وأملاً، ودافعاً وهدفاً، حين يكون ذاكرةً مفعمةً بالمنجز، وحاضراً متخماً بالتحدي، وغداً برسم البناء فإنه يمنح أفقاً غير محدودٍ للنجاح والتطوير ويملأ العقول والقلوب بحثاً عن مكانةً في دوحة خدمته ورقيه، وهو ما يجري اليوم في السعودية.
سيتذكر المؤرخون طويلاً هذه المرحلة المهمة من تجدد الدولة السعودية على كل المجالات، وسيتذكرون الجهود المضنية التي بذلت والقرارات الحاسمة التي اتخذت، والرجال المخلصين الذين نذروا أنفسهم للقيام بكل ما يجب لضمان هذا التجدد التاريخي لأن الدول التي لا تجدد نفسها تسقط وتنتهي.
أشهر خصوم السعودية في المنطقة إيران وهي لم تواجه منذ نشوء نظام ولاية الفقيه تحدياً كما تواجهه اليوم بقيادة السعودية، فهي بعد خطط التوسع وأوهام النفوذ أصبحت تجد نفسها مضطرةً للانكماش والتراجع، والدول من حولها تتكاتف ضدها والعالم أصبح مضطراً للاعتراف بشرورها وسياساتها الإرهابية، وحليفتها جماعة الإخوان المسلمين يزداد وعي العالم بشرورها وإرهابها، وقطر حليفتهما ترزح تحت نير المقاطعة والعقوبات.
أخيراً، برؤيتها المستقبلية وبتعزيز تحالفاتها الدولية والإقليمية وبضرب خصومها تترسخ وتتعزز مكانة السعودية من مؤسسها الملك عبد العزيز إلى ملك الحزم سلمان بن عبد العزيز.
[email protected]