عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

استفتاء كردستان... نقمة أم فرصة؟

حوار الطرشان بين بغداد وإقليم كردستان بشأن استفتاء الاستقلال ونتائجه، يجعل الأمور تسير في طريق ذي اتجاه واحد، نحو مواجهة محتومة. استمرار التعنت في المواقف يدفع الأمور في هذا الاتجاه، والتصعيد في التصريحات ينذر بانزلاق سريع نحو مواجهة لا يتمناها عاقل. صحيح أن الأكراد ظلوا يكررون التصريحات بأن الاستفتاء لا يعني أن الانفصال سيقع غداً، وأن الهدف منه هو تقوية يد حكومة الإقليم في التفاوض مع بغداد، وذلك في محاولة لامتصاص ردود الفعل الغاضبة والمعارضة لخطوة الاستفتاء، إلا أن هذه التصريحات لم تقنع الحكومة العراقية الغاضبة، أو تخفف من رفض دول الجوار مثل تركيا وإيران وسوريا، أو تهدئ مخاوف القوى الدولية من احتمال اندلاع مواجهات دموية تعرقل جهود الحرب على «داعش». فالكل كان يعرف أن مجرد إجراء الاستفتاء سيعني فرض واقع جديد ستكون له تداعيات واسعة على صعيد العلاقات بين كردستان وبغداد، وكذلك بين الإقليم ودول الجوار المعادية لفكرة دولة كردستان المستقلة والمتوجسة من تداعياتها على أوضاعها الداخلية وعلى علاقاتها مع أقلياتها الكردية.
السؤال الذي يؤرق الكثيرين هو: لماذا أصرت حكومة إقليم كردستان على إجراء الاستفتاء في هذا التوقيت، وفي ظل التصريحات العدائية من الحكومة العراقية ومن تركيا وإيران وسوريا، والدعوات الدولية للتأجيل؟
الواضح أن حكومة الإقليم اعتبرت أن الأمر يستحق المخاطرة، وأن الظروف الراهنة في العراق تشكل فرصة قد لا تتكرر لمثل هذا الاستفتاء. وهي تراهن الآن على أن الحكومة العراقية على الرغم من لهجة التصعيد ستعود إلى الحوار للتوصل إلى حل بدلاً من الدخول في مواجهة عسكرية ستكون باهظة الثمن لكل الأطراف. المشكلة أن الحكومة العراقية من جانبها تواجه ضغوطاً داخلية وخارجية، ولديها حساباتها أيضاً في رفض الاستفتاء ونتائجه، مما يعني أن الفترة المقبلة ستكون حرجة لجهة أين تتجه الأمور من هنا. فالبرلمان العراقي صوّت على قرار يلزم رئيس الوزراء حيدر العبادي بنشر قوات في المناطق التي استولى عليها الأكراد منذ الغزو الأميركي عام 2003، وهو ما يعني المناطق المتنازع عليها، بما فيها كركوك التي يطلق عليها بعض الأكراد اسم «قدس كردستان»، ويعتبرها كثيرون برميل بارود قابلاً لتفجير الأوضاع. وفي إطار التصعيد أيضاً أمهلت الحكومة العراقية إقليم كردستان ثلاثة أيام لتسليم السيطرة على مطارات الإقليم، في الوقت الذي أوقفت فيه إيران الرحلات الجوية المباشرة إلى الإقليم.
تركيا، من جهتها، تبدو متشددة أكثر من بغداد في رفض الاستفتاء الكردي ونتائجه، محذِّرَةً من خطوات سياسية واقتصادية وأمنية وإجراءات لمحاصرة الإقليم تشمل وقف صادراته النفطية التي تمر عبر الأراضي التركية. ولم يستبعد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان حتى التحركات العسكرية، ملوحاً بالتدخل لحماية التركمان. هذا التشدد يعكس مخاوف تركيا من تأثير استفتاء كردستان على أكرادها الذين يشكلون الكتلة الأكبر بين الأكراد في المنطقة، وتخوض حركاتهم المسلحة حرباً ضارية ضد أنقرة منذ عقود.
في ظل كل هذا التصعيد، من مصلحة الأكراد أن تأتي الخطوة المقبلة من جانبهم بهدف احتواء التوتر وتفادي مواجهات عسكرية باهظة التكلفة. وفي تقديري أن المخرج قد يكون في إعلان تجميد نتائج الاستفتاء والدخول في حوار جاد مع الحكومة العراقية بشأن المستقبل لكي تتم أي خطوات أخرى بالتراضي. فحتى لو ظل الأكراد متمسكين بمطلب الاستقلال، فإن الدروس المستقاة من تجارب كثيرة نتائجها ماثلة أمامنا، تفيد بأن الانفصال يمكن أن يحدث بالتفاهم مثل نموذج تشيكوسلوفاكيا أو حتى نموذج السودان على علاته. فالبديل هو الحرب الدامية مثلما حدث في يوغوسلافيا السابقة، وهو نموذج سيكون باهظ الثمن على كل العراقيين، ولكن بشكل خاص على الأكراد المطوَّقِين بدول لديها الإمكانات لإجهاض حلمهم أو على الأقل لتعطيله سنوات طويلة.
من جانبها، فإن الحكومة العراقية، وإن ناسبها التصعيد من قبل دول الجوار ضد إقليم كردستان ونتائج استفتاء الاستقلال، ليس من مصلحتها بالتأكيد حدوث تدخلات عسكرية خارجية سيكون العراق المتضرر الأكبر منها. فليس هناك من بديل عقلاني عن الحوار لحل الخلافات ولوضع خريطة طريق لترتيبات المستقبل. الأكراد لديهم حقوق ومطالب لا يمكن إلغاؤها أو تجاهلها، والأوضاع لم تكن ستصل إلى هذه النقطة الراهنة لو أن الحكومات العراقية المتعاقبة في مرحلة ما بعد 2003 أوفت بالتزاماتها الدستورية، وحافظت على حقوق كل الأطراف والمكونات، وسَعَتْ من أجل خلق دولة ديمقراطية تعددية قائمة على المواطنة والحقوق المتساوية التي لا تميز بين أي طائفة وأخرى.
استفتاء كردستان قد يصبح نقمة لو استمرت الأطراف في التعنت والتصعيد، لأن الأمور ستنزلق نحو مواجهات عسكرية عاجلاً أم آجلاً، لكنه قد يشكل فرصة إذا تغلب العقل وأدركت الأطراف أن المصلحة تقتضي النظر في كل الصيغ الممكنة للحل بما فيها الفيدرالية التي قد تشكل المخرج للعراق في الظروف الراهنة.