إميل أمين
كاتب مصري
TT

بغداد ـ أربيل... الحوار عوضاً عن الفخ

وقت كتابة هذه السطور، كانت التحركات على جانبي بغداد وأربيل تنذر بالمواجهة الصادمة والقادمة، ومع ظهورها للنور لا يجزم أحد بما ستؤول إليه الأمور، سيما أن الساعات القادمة باتت مرتبطة بمهلة حكومة العراق المركزية للقائمين على إقليم كردستان لتسليم المطارات الواقعة هناك، عطفاً على أحاديث أخرى عن تحركات عسكرية عراقية ناحية كركوك التي يرفض محافظها، نجم الدين كريم، خضوعها لسلطة بغداد. وبين هذا وذاك يبدو وكأن تحركات إيران وتركيا تأخذ مساقاً تنسيقياً، وإن اختلفت الأهداف الاستراتيجية لطهران وأنقرة في كردستان بداية، ثم بقية المنطقة الأوسع جغرافياً من جهة ثانية.
هل حسب الأكراد حساب استفتائهم بشكل جيد، أم أن فورة انتصاراتهم العسكرية الأخيرة أغرتهم؟
من الواضح جداً أن قضية الاستفتاء معقدة للغاية، ذلك لأنها ترتبط بحسابات وتوازنات، لا بغداد ولا أربيل فقط؛ بل دول الجوار، وللمرء أن يطلق عليها بكل أريحية دول الطوق إن شاء، إذ نرى سريعاً ضرباً من ضروب الحصار والمقاطعة على إقليم كردستان، منذ ظهور نتيجة الاستفتاء حتى الساعة، بدءاً من الأغذية وصولاً إلى المطارات ووسائل تصدير النفط.
والشاهد أنه على الرغم من تصريحات السيد بارزاني بأن الاستقلال لن يصير اليوم التالي للاستفتاء، فإن نتيجة الاستفتاء في كل الأحوال عمقت وزخمت إلى أبعد حد ومد نوايا الانفصال عن العراق أولاً، وأضحت أنموذجاً جديداً لبقية الأكراد الموجودين على الأراضي التركية والإيرانية والسورية، ما جعل حلم الدولة الكردية يشتعل في الصدور من جديد، وإمكانية إطفاء جذوته باتت تبدو منعدمة.
بالمقابل وبالنظر إلى الطوق الذي بات يفرض على إقليم كردستان، يمكن للمرء أن يستنتج تعميق حالة التضاد بين الأكراد وأهلهم في العراق أولاً، ثم تأكيد تلك الكراهية لمن يحاول من الأطراف الجارة تطويقهم، ناهيك عن تعزيز الرغبة في الانفصال لتفادي مثل هذه المهانة الإنسانية في قادمات الأيام.
يحفل الملف الكردستاني بتعقيدات عدة ومخاطر جمة في الحال والاستقبال، إذ يؤسس لحالة من حالات الانفصال والاستقلال لدى أقليات العالم العربي، وربما الإسلامي من بعد، ويكاد يخيل للرائي أن مشروعات تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ عربياً، والتي كانت فترة ما أطلق عليه «الربيع العربي» مبتدأ أوجاعها، تعود من الشباك بعد أن قدر للعرب طردها من الباب، حين كسرت شوكة الجماعات الراديكالية، المتحالفة تقليدياً مع الإمبريالية العالمية، تلك إلى تتخذ العسكرة شكلاً لها منذ التدخل في أفغانستان وصولاً إلى غزو العراق.
انفصال إقليم كردستان اليوم حكماً سيدفع أطرافاً أخرى في دول عربية بعينها للتماهي معها، لنرى لاحقاً أكثر من كردستان، وما هو أعقد من جنوب السودان، فهناك على سبيل المثال أقليات عرقية بربرية تمتد من أقصى المغرب العربي إلى الصحراء الغربية المصرية، عطفاً على احتمالات لا تخطئها العين للتذرع بأسباب الطائفية والمذهبية الدينية، فمن يضمن ألا يطالب الإيزيديون في العراق، ناهيك عن الكلدان والآشوريين، بمناطق آمنة مستقلة لهم، على غرار المسار الذي سلكه الأكراد منذ عام 1991.
خطورة الاستفتاء الأخير وتبعاته أنه يهدد الدولة الوطنية العربية في المستقبل القريب، وهو تهديد من أسف كبير نابع من قلب فشل تلك الدولة في الانطلاق من عالم القبليات والعنصريات والهويات المتقاتلة، إلى عالم الحداثة، حيث المواطنة عنوان بغض النظر عن العرق أو الجنس أو الدين، وهو ما لم يتنبه له كثير من دول المنطقة، ويرشح عنه الآن تهديدات حقيقية، ويمكن أن تتبلور عنه انشقاقات أخرى، بعضها قائم وغيرها قادم.
يستدعي الانتباه في مشهد كردستان ورغبته في الانفصال، الموقف الأميركي على نحو خاص، إذ أشار المتحدث باسم البنتاغون الميجور أدريان رانكين غالاوي، إلى أن مسؤولاً رفيعاً في وزارة الدفاع الأميركية قد اتصل بحكومة إقليم كردستان، وأبلغها أن تنظيم الاستفتاء لم يكن مناسباً في الوقت الراهن.
المسألة إذن بالنسبة لواشنطن ليست مسألة رفض الانفصال كمبدأ، إنما في التوقيت، حيث تراهن واشنطن على دور الأكراد في دحر «داعش» وأخواته في العراق، فيما يراهن الأكراد على ضعف الدولة العراقية التي فر جنودها في زمن نوري المالكي من الموصل أمام الدواعش، بينما صمدت قوات الأكراد رجالاً ونساء، وحققوا انتصارات لا ينكرها أحد.
ما من شك في أن واشنطن لديها مصالح كثيرة في قيام دولة كردية تدعمها إسرائيل بقوة، لتكون نقطة استراتيجية لملاقاة الإيرانيين الطامعين في الهيمنة على الخليج العربي، ولهذا يعلو صوت أميركي آخر جهراً، بأن العلاقات التاريخية بين الولايات المتحدة وشعب كردستان لن تتغير بسبب نتائج الاستفتاء.
أحسن كثيراً وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتي الدكتور أنور قرقاش، حين أشار إلى أن الحوار هو طريق بغداد وأربيل لتحقيق الاستقرار بعد نتائج الاستفتاء، ذلك أن البديل هو وقوع العراق عرباً وأكراداً في فخ كبير، أقرب إلى الهاوية التي لن ينجو منها أحد. هل من راشد بينهم يجنب الجميع ظلم الجب العميق القادم لا محالة؟