دانيال موس
TT

محافظ بنك إنجلترا في مواجهة لغز التضخم

يعكف مسؤولو البنك المركزي على محاولة سبر أغوار ما وصفته الاقتصادية البارزة جانيت يلين بـ«اللغز» وراء معدلات التضخم المنخفضة ومعدلات التوظيف القوية.
وتتطلب الإجابة عن هذا التساؤل إجراء تحقيق عالمي، النقطة التي شدد عليها بنك الاحتياطي الفيدرالي مؤخراً، عندما أشار أحد مسؤوليه (ربما تكون يلين نفسها) إلى الطابع العالمي للتحدي. ولا يزال التضخم والأجور منخفضين على نحو يثير الدهشة، رغم الطفرة العالمية، تُرى ما السبب؟
عندما ناقشت الأمر مع مسؤول آسيوي رفيع المستوى هذا الشهر، أحالني إلى خطاب ألقاه مارك كارني منذ بضعة أسابيع. خلال الخطاب الذي ألقاه محافظ بنك إنجلترا، تحديداً في 18 سبتمبر (أيلول)، تناول الصلات القائمة بين العولمة والأسعار المحلية. ودارت الفكرة الرئيسية في خطابه حول تراجع أهمية الظروف الاقتصادية المحلية، وقدرة العمالة المحلية على الحصول على زيادات في الأجور. اليوم، أصبح المهم ليس ما يمكن لجارك في المسكن تقاضيه مقابل عمله، وإنما ما يتقاضاه الشخص المقيم على الجانب الآخر من المحيط.
الواضح أن تنامي سلاسل التوريد أو العرض العالمية، وسوق العمل الدولية الضخمة، وجهات الإقراض والاقتراض التي تعمل في إطار مجموعة من العملات، جميعها عوامل تؤثر على التضخم. ويكمن التوتر هنا في أن البنوك المركزية تتحمل مسؤولية مكلفة بها من قبل الحكومات والبرلمانات الوطنية التي تعمل تحت قيادتها. كما أنها مسؤولة أمام ناخبين لا يبدون في معظمهم اهتماماً بالتطورات الجارية خارج البلاد، وكيف تسهم في صياغة الحياة الاقتصادية لبلد ما، أو لا تتوفر لديهم معلومات مناسبة في هذا الشأن.
على سبيل المثال، من المعروف الدور الذي تلعبه السلع المستوردة في الإبقاء على الأسعار منخفضة داخل سلسلة متاجر «وول مارت ستورز إنك». الملاحظ أنه بقطاع الخدمات، ثمة مستوى أقل من تحرير التجارة. ولولا التكلفة الأعلى للخدمات، لكانت معدلات التضخم داخل غالبية الاقتصادات المتقدمة أقل. وأعرب كارني عن اعتقاده بأن أسعار السلع داخل المملكة المتحدة تراجعت بمتوسط بلغ 0.3 في المائة على مدار العقدين الماضيين، بينما ارتفعت الخدمات بنسبة 3.4 في المائة.
وهناك كذلك سلاسل التوريد ودور العناصر المتنوعة القادمة من مجموعة متنوعة من الدول التي تتسم بأسواق عمل ونطاقات سعرية متباينة. ويسهم ذلك أيضاً في انحسار دور الظروف المحلية في تحديد معدلات التضخم.
ويأتي العامل الأكبر: أسواق العمل، ولاحظ هنا استخدام صيغة الجمع، ذلك أن الحديث هنا لا يقتصر على بلد واحد. على سبيل المثال، قد تكون أسواق العمل داخل الولايات المتحدة أو ألمانيا أو المملكة المتحدة متأزمة، من دون أن يوفر ذلك حافزاً لنمو الأجور.
وهنا، دعونا نعود إلى كارني من جديد الذي قال: «مضاعفة سوق العمل العالمية الفاعلة يشكل دفعة إيجابية هائلة على صعيد العرض بالنسبة للاقتصاد العالمي. وقد شجع ذلك على إحداث تحول في السلع والخدمات التي تعتمد بكثافة على العمالة منخفضة المهارة، باتجاه الدول ذات الوفرة في هذا النمط من العمالة - وغالبيتها اقتصادات ناشئة - في الوقت الذي تتركز السلع والخدمات التي تتطلب عمالة أكثر مهارة داخل الدول التي تتمتع بنصيب أكبر من هذه العمالة، وغالبيتها اقتصادات متقدمة. وكان من شأن القدرة المتنامية على فصل عناصر ومهام الإنتاج عبر سلاسل القيمة العالمية تعزيز ذلك التأثير.
إضافة لذلك، زادت العولمة من تنافسية أسواق العمل. وعليه، فإن تأثير الانفراجة في أسواق العمل المحلية على الضغوط التضخمية المحلية أصبح أضعف. وربما يكمن التفسير وراء ذلك السهولة المتزايدة التي أصبح يمكن من خلالها تعهيد النشاطات الاقتصادية إلى الخارج، أو سد الوظائف الشاغرة محلياً بعاملين من الخارج، الأمر الذي تسبب في تقليص القدرة على التفاوض وتوقعات الأجور لدى العمال. ورغم أنه من العسير قياس هذا التأثير بدقة، فإن الأدلة المتوافرة توحي بأن تأثير التنافسية قد يكون كبيراً. وعلى ما يبدو، فإن الانفتاح الأكبر قلل حساسية الأجور لظروف أسواق العمل المحلية.
ومن بين الأمور التي عادة ما يجري إغفالها: أن العمال المهرة يميلون إلى ادخار مزيد من المال عن العمال الآخرين. وتجري إدارة هذه الأموال من جانب صناديق ومصارف تتسم بنطاق نفوذ عالمي ومحافظ عالمية. ومع تقدم الهرم السكاني العالمي في العمر، تتنامى بشدة مدخرات التقاعد وتلف أرجاء العالم بحثاً عن عائدات، الأمر الذي يبقي معدلات الفائدة منخفضة. ويعني ذلك أن معدلات الفائدة والظروف المالية داخل أي دولة ربما ترتبط بالتدفقات الرأسمالية العالمية أكثر من ارتباطها بأي ظروف محلية.
ويحملنا ما سبق إلى التساؤل الأخطر: هل نحن بحاجة إلى سياسة نقدية عالمية، بدلاً عن مجموعة من السياسات النقدية الوطنية؟ من جانبه، لم يصل كارني إلى هذه النقطة في حديثه، والواضح أن هذا صراع مؤجل في الوقت الحاضر بالنسبة له؛ خاصة في ظل حالة الفوضى التي خلقها قرار الناخبين البريطانيين التعامل مع العالم باستهانة واستخفاف.
في الواقع، ربما يكون ذلك موضوعاً مثيراً لمقال في المستقبل. من ناحية أخرى، يكمن التحدي الأكبر الآن في دفع السياسيين على الصعيد الوطني للاعتراف صراحة بأن البنوك المركزية لديهم بحاجة إلى توجيه مزيد من الاهتمام نحو العالم، وليس الدوائر الانتخابية داخل بلدانهم فحسب. وبطبيعة الحال، تبدو هذه فكرة من الصعب للغاية إقناع الناخبين بها. لذا، لا يسعنا سوى توجيه الشكر إلى كارني للدور الذي قدمه في حل اللغز الاقتصادي القائم، وكذلك كلاوديو بوريو الذي أطلق تصريحات مثيرة على الصعيد ذاته منذ بضعة أيام. والمؤكد أنه طالما لا نطرح الأسئلة الصحيحة، لن نحصل على تفسير - ناهيك عن حل - للغز التضخم المفقود.

- بالاتفاق مع «بلومبيرغ»