بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

مشاهير أضلّهم الغرور

تُرى، كم مِن هارفي وينشتاين مختبئ بمكان ما في عالم مشاهير أضلّهم غرور ذكوريتهم، فأطلقوا سراح شهوانيتها من إسار قويم الخُلق، وما تعارف عليه أسوياء الخَلق من تقاليد التحضّر، كي تسرح كما يحلو لها بين أحراش غابات التحرش، والاعتداء على أعراض نساء واغتصابهن؟ الأرجح أن هؤلاء كُثر، إنما حظوظهم أكثر في الهرب من فضائح تبعات أفعالهم، إما لمجرد أنهم غير معروفين في ساحات العمل العام، أو لأن سطوتهم قد تطال عائلات ضحاياهم، وإذ ذاك يتجاوز خوف الضحية من بطشهم حدود دورٍ في فيلم، أو على خشبة مسرح، يعشش الرعب في صدر المُتحرَش بها، أو المُعتدى عليها، فلا تجرؤ على البوح، حرصاً منها على أسرتها أكثر من حرصها على ذاتها، وفي ذلك سموٌ بالقدرة على التضحية يرقى بها أعلى الدرجات.
لكن سكوت ضحايا مسلسل هارفي وينشتاين، المتزايدة أعدادهن كل يوم، لا يندرج تحت بند الخوف من بطش الرجل ضد أي منهن، بل هو أقرب إلى صمت الرضي باعوجاج الزعم أن نجومية الأنثى في فضاء الفن له ثمن عليها أن تقبل به إن لم تنج منه. هراء. ليس من إنسان محترم يدب على الأرض، بصرف النظر عن الجنس، فالرجل والمرأة يتساويان هنا، يمكن أن يقايض الشهرة بالكرامة، أو يشتري امتهان الذات بنجومية الأضواء، أياً كانت سطوة إغوائها.
ربما راود كثيرين تساؤلٌ عما يدفع الرجل الناجح، مثل الأميركي هارفي وينشتاين، حاصد جوائز «أوسكار» أفلام عدة أنتجها، أو الفرنسي دومينيك ستراوس - كان، الذي خسر رئاسة صندوق النقد الدولي بسبب فضيحة جنسية (2011) في أحد فنادق نيويورك، لمثل تلك السقطات. هل هو مجرد الجشع، أو هي «العين الزائغة» - كما في المثل الدارج - أم أن المشكل أبعد وربما يوجب الاستعانة بالطب النفساني؟ من جهته، أقر هارفي وينشتاين أنه يحتاج إلى مساعدة من ذلك النوع. لكن يجوز الشك أنه إنما يتذرع بالبحث عن «حجج» علّها تشفع لسقطاته. بعض المتورطين في هكذا فضائح يبدو كما المتعلق بقشة تعاطف، يتمسك بها كي يعاود العوم بعدما غرق في لجج نزواته.
في سياق متصل، رغم سخف تصرفات مشاهير الفن، الناجمة بشكل أو آخر عن سطوة غرور النجومية، يظل الأسوأ منهم، بل الأخطر، أولئك الذين حلّقوا في فضاءات نجومية دين ما، وليس الإسلام وحده. المعنيون هنا هم بعض المتخذين صفة «الدعاة» على شاشات التلفزيون بغرض الترويج لفكر سياسي محدد، أو منهاج عقائدي خارج عن أساس الدين، أياً كان. ولقد ابتُلي الإسلام، بشكل خاص، خلال الثلاثين عاماً الماضية، لكن الابتلاء تصاعد خلال العقد الأخير، بهكذا «دعاة» أضلّهم غرور شهرتهم فاتخذوا نجوميتهم وسيلة تضليل للخلق، ينفثون رؤاهم بين الناس، يكفرّون وفق الهوى، ويزكّون أنفسهم ومن تبعهم على غيرهم. من نتاج تضليل مشاهير أولئك «الدعويين»، خصوصاً عبر شبكة الإنترنت، ظهور تنظيمات إرهاب تتستر بالدين الحنيف، منها حركة «الشباب» في الصومال، الذين أوقع إرهابهم السبت الماضي مئات القتلى والجرحى في مقديشو. وإذ تتمدد أورام هذا الإجرام، سوف يبقى السؤال يبحث عن الجواب الشافي: كم سيطول ظلام ليل الغشاوة الذي غشينا مذ أطل رأس أفعى تضليل البشر باسم خالق الناس أجمعين؟
يبقى القول إن نبأ إعلان القاهرة يوم الخميس الماضي، بتوصل حركتي «حماس» و«فتح» لاتفاق نهائي كان يستحق احتلال هذه المساحة. بكل تأكيد، لا شك في أهمية ما تحقق، ولا جدال في ضرورة إسناد المصالحة الفلسطينية، وتوفير متطلبات دعمها، وتمهيد السبل أمام انطلاقها. لن يجادل في هكذا أمر، ولن يعرقل الطريق أمامه، سوى الذين هم غير معنيين بتكاتف فلسطيني يوصل لإنهاء ما تبقى من صور الاحتلال الإسرائيلي. المهم الآن هو أن يثبت القادة الفلسطينيون جدّيتهم، وأن عملهم، وليس فقط لقطات تشابك أيديهم، هو الذي سيكمل فض أي اشتباك سياسي أو منهجي، يحول دون إكمال خطى إعادة توحيد الأرض الفلسطينية، وتوثيق عُرى المصالحة، بما يضمن توطيد مصلحة الفلسطينيين العليا. الحق أن الأمل يملأ قلوب الناس، وحقيق بقيادات الحركتين، وكل التنظيمات أن ترقى إلى مستوى المأمول منهم.