منذ سنوات طويلة، اختفت - أو كادت أن تختفي - الأفلام التي تعد بمستقبل مشرق باهر قابل للحياة، أو يمكن التطلع إليه بشوق. أفلام الخيال العلمي - في غالبيتها - توفر صورة قاتمة حول المستقبل على الأرض، سواء قالت ذلك مباشرة أو اكتفت بتقديم حكاياتها التي تقع على بعد سنوات منظورة.
بذلك، تتحدث هذه الأفلام عن عالم مدمر، وبيئة ملوثة بالكامل، ومجاعات، وتقسيم بشري بين من يملك ومن لا يملك، ومخاطر كثيرة أخرى، مثل انتشار أوبئة تحوّل الناس إلى مصاصي دماء أو آكلي لحوم بشر.
«Blade Runner 2049» هو أحد الأفلام الجديدة التي توفر هذه الرؤية بلا اعتذار. في 163 دقيقة داكنة، ليس هناك من بارقة أمل في غد أفضل، بقي بطلنا جو على قيد الحياة أو لم يبقَ. هو جزء ثان متأخر 35 سنة عن الجزء السابق الذي أخرجه ريدلي سكوت سنة 1982. آنذاك، تحدث الفيلم عن مستقبل داكن يحتوي على صياد بشر من أولئك المصنوعين في المختبرات، الممنوحين خصائص السلوكيات البشرية كافة وملامحها العامة. الكلمة التي استخدمها فيلم «Blade Runner» الأول هي «Replicants». أما «بْلْايد رَنر»، فهو صائد تلك المخلوقات، عندما يقرر أمن مدينة لوس أنجليس أن الوقت قد حان لاقتلاعهم.
أحداث الفيلم الأول تدور في عام 2019. آنذاك، بدت المسافة الزمنية كبيرة بين تاريخ إنجاز الفيلم وموقع أحداثه الزمني، لكنها كانت أكبر في رواية المؤلف فيليب كنراد دِك، إذ نشرها سنة 1968 ومات عن 53 سنة، في العام ذاته الذي شهد إنجاز الفيلم الأول. وعنوان الرواية حمل تساؤلاً: «هل تحلم الأندرويدز بالماشية الكهربائية». القرار المبكر لريدلي سكوت كان هو استخدام اللقب الذي يحمله بطل الفيلم كرنين خاص لم يسبق لهواة السينما أن سمعوا به. «بلايد رنر» هو صائد الجوائز الذي يبحث عن البشر المصنّعين والمستنسخين للقضاء عليهم. وحسب الرواية، والفيلم على أثره، فإن هذا الصياد، واسمه رك ديكارد، سيكتشف في نهاية المطاف أنه ليس بشراً بدوره.
ما فعله فيلم سكوت حينها هو أنه أبقى هذا الاكتشاف هائماً، كونه ورد كاتهام غير ثابت من قِبل ضابط شرطة في المدينة.
عن سطح الواقع
الطقس في ذلك الفيلم لافت؛ هو جزء من موهبة مصممي الإنتاج والمناظر الذين ضمنوا لنا مشاهدة عالم موبوء: المطر الملوث ينهمر، والشمس لا تكاد تسطع حتى تحجبها غيوم غريبة ملبّدة، والمدن داكنة مكتظة.
لكن هذا الفساد البيئي جاء مصحوباً بفساد سياسي، حسب فلسفة الكاتب الذي وجد في جل رواياته الحيز المناسب للحديث عن تضارب المصالح الإنسانية العامة بتلك النخبوية، وانحدار القيم المعمول بها.
«بلايد رَنر 2049»، للكندي دنيس فيلينييف، يحافظ على هذه المواصفات. يغير في بعض المظاهر، لكنه يهضم الفكرة الأساسية جيداً. المطر لا ينهمر دوماً، لكن لون السماء مثل لون الجثث. المدن ركام من المباني المهدومة. الحياة ذاتها هي نسخة رديئة جداً من تلك السابقة في فيلم سكوت. بالمقارنة، إذ عمد الفيلم السابق (تصوير جوردان كروننوذ) إلى أحداث أقرب شأناً ليومنا هذا، سمح بالمدن أن تكون عامرة. في الجزء الجديد (تصوير اللامع روجر ديكينز، مستخدماً أنواعاً متعددة من كاميرا الديجيتال Arri Alexa)، المدن أقل عمراناً. على الأرض أقل زحاماً، وإذ تطير المركبات فوق المدن، نجد أن الطرق تحت تلك المركبات خالية من السيارات. لا شيء يذكر بقي على قيد الحياة سوى «بلايد رَنر» جديد. شرطة المدينة. مؤسسة تصنع البشر، وبضعة «موديلات» بشرية، وبعض مهمشي الحياة الذين باتوا أكثر تهميشاً مما كانوا عليه ذات يوم.
القصّة المكتوبة هنا خصيصاً للسينما تتعاطى حكاية صياد اسمه الأصلي جو والميكانيكي المستخدم في المهام المسنودة إليه. المهام لا تختلف عما كانت عليه في الفيلم السابق، لكن جو ليس مثل رك (الذي أداه في الفيلم السابق هاريسون فورد)، من حيث إنه لا يتحرك بتفاعل مكثف مع مهمّته. رك كان مثل رجل التحري الخاص الذي ينطلق بكل مشاعره لتأدية عمله؛ رجل تخشاه في الوقت ذاته، فإن هذا الرجل لديه ما يخاف منه في ذلك العالم المتلبد. لكن جو (كما يؤديه رايان غوزلينغ) هو أكثر انعزالاً. اللقاء بينهما يؤكد شخصيتيهما المختلفتين: رك ما زال رجل الواقع، في حين أن جو هو الرجل الذي ترتفع قدماه عن سطح الواقع؛ شخص حائر تساعده نظراته الهائمة على تشخيص الحالة.
هناك مسافة بينه وبين ما يقوم به. فراغ لا يفهم سبب وجوده، والأحداث الواردة ستملأ بعض هذا الفراغ، لكن بالحكم على المشهد الأخير، حيث يهطل البَرد فوقه وهو جالس على بعض عتبات مبنى مهجور، فإن الفراغ الناتج عن عدم الإيمان بالدور وبالذات باق.
على النقيض من شخصية رك، فإن جو كان يعتقد أنه مستنسخ، قبل أن يكتشف العكس. لكن هذا أيضاً أمر معلق في الهواء، كما لو أن جو هو نموذج للإنسان، أو ما سيؤول إليه. فلسفياً، هو شخص حائر بلا هوية، تكاد مسألة ما إذا كان إنساناً عضوياً أو مصنوعاً تغدو أقل أهمية مما يجب أن تكون عليه.
مرئيات داكنة
اللقاء بين الممثلين رايان غوزلينغ وهاريسون فورد جيد، وإن كان مستوى البحث الدائر خلاله لا يرتفع إلى ما يتوقعه المشاهد من حكاية تبدو بحاجة ملحة إلى «فوكاس». هذا الافتقار إلى الوضوح ناتج عن أن الدوافع غير واضحة بدورها، وفي بعض الأحيان غير موجودة، ما يبقي المضمون ضبابياً.
بعد أكثر من ساعة من الفيلم، تخرج علينا الممثلة هيام عباس فجأة؛ الممثلة الفلسطينية التي تعيش وتعمل في باريس على مدار الساعة هذه الأيام، ولا تبقى طويلاً. دورها محدود، لكنها تمثله بجدارة؛ هي رئيسة فريق من المصطنعين الذين قرروا الثورة، وعلى جو أن يحدد موقفه. لكن غايته الأهم بالنسبة إليه البحث وإيجاد نفسه لكي يطرح عليه بعض الأسئلة التي قد تزيده وضوحاً، بعدما وجد تاريخاً لميلاده، وقد تؤكد أن جو هو إنسان فعلي.
المرأة هنا هي التي تمسك بزمام الأمور. بالإضافة إلى شخصية هيام عباس، فإن المسؤول الأول عن جو في قسم البوليس هو امرأة، والعدو الأول لجو الذي يطارده لقتله هو أيضاً امرأة.
ما يعرضه فلنييف رائع كصورة. قبضته على الفيلم لغوياً، من تصميم مناظر إلى مفردات العمل والارتقاء بمستوى بصرياته، رائعة. لكن، وعلى امتداد مدة عرضه لنحو ثلاث ساعات (هناك نسخة أخرى من ساعتين)، فإن ما يحتويه من أحداث فعلية هو أقل مما يجب لفيلم لديه الكثير ليقوله.
المهمة المسنودة إلى المخرج فلنييف ليست سهلة: من ناحية لديه فيلم كلاسيكي قائم بحد ذاته، ليس من السهل مقارعته، لذا يتوجب الصعود إلى مستواه. من ناحية أخرى، فهو جزء تال (كان يمكن للقصة ذاتها أن تشكل نواة فيلم آخر منفصل) عليه أن يتصرف كعمل مستقل لجيل جديد من المشاهدين، بعضهم لم يشاهد الجزء الأول، أو يعي قيمته.
الموسيقى التي تصاحب هذه المرئيات الداكنة، الملتقطة بدقة وموهبة مدير التصوير، كتب بعضها هانز زيمر (بعضها الآخر لبنجامين وولفيش). وما كتبه زيمر يشبه كثيراً ما كتبه لفيلم كريستوفر نولان الأخير «دنكرك». هناك تلك الموسيقى التي تتحوّل إلى همهمات صوتية ومؤثرات خلفية مسموعة. على تكرارها، تخدم ما يرد في هذا الفيلم جيداً، وتناسب ذلك البحث الذي يتولاه جو طوال الفيلم، حول نفسه وحول تاريخ حياته الذي لا يعرف عنه شيئاً.
بطبيعة الحال، وتبعاً لأسلوب عمل واهتمام كل من المخرجين ريدلي سكوت ودنيس فلنييف، فإن الفيلمين لا يتشابهان إلا في تلك المقومات المذكورة أعلاه؛ كلاهما عن صراع بين الإنسان والعلم، كل من الإنسانية والعلم على خطأ، كلا الفيلمين يتحدث عن مستقبل داكن، لكن فيلم سكوت يحمل تشويقاً أعلى (وتمثيلاً أفضل).
«Blade Runner 2049» هو إنجاز لمتعة النظر، وأقل من ذلك لمتعة الدراما. خيالي علمي صارم في انتمائه، يطرح عدة مسائل كان يمكن لكل منها أن يكون مادة فيلم منفصل، لكنها تجتمع هنا على نحو من يمعن في الشيء لاكتشاف دلالاته، فيطيل النظر ولا يكتشف كثيراً. الحكاية التي تتحرك أمامنا واضحة بذاتها وكأحداث متوالية أكثر من المضامين والأفكار التي تنضح بها.