د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

جدليّة الاقتصاد والأمل

هل الواقع هو من يحدد لنا سقف الأمل وحدوده، أم أن الأمل يتجاوز الواقع ويضع لنفسه الحدود، وهو الذي يشكل الواقع في كثير من الأحيان؟
نحن هنا لا نتساءل عمن يسبق الآخر: الأمل أم الواقع. ومن ثمّ لسنا أمام أنموذج البيضة والدجاجة. ولكن السؤال يتجه نحو العلاقة بين الاثنين والديالكتيكية بينهما.
إلى أي حدٍّ يسمح الواقع العربي اليوم بنماء نبتة الأمل؟ طبعاً الأمل في الغد؟ وبخاصة علاقة شبابنا بالأمل؟
يبدو لي أن هذا السؤال على بساطته ونزوعه نحو التبسيط الموغل والمباشراتية، فإنّه ليس سهلاً وصعوبته تعود لا إلى تعذر الإجابة عنه بل إلى ندرة مؤشرات الأمل والشعور به.
كل الفئات العمرية في مجتمعاتنا معنية بالغد والأمل، ولعل تعلق همة الشباب أكثر من الجميع بالأمل، لأنه بالأمل يبني هويته الذاتية، ويعزز شعوره بالانتماء إلى الدولة، ويندمج اجتماعياً، ويلبّي حاجته الوجدانية العاطفية. وكلما كان منسوب الأمل أكبر كان الاحتقان أقل، والاحتجاج أقل، والانشقاق الاجتماعي أقل فأقل.
إذاً، كما نلاحظ، فإن الأمل في السياق الذي يهمنا اقتصادي بالأساس: جدليّة الاقتصاد والأمل، جدلية الثروة والأمل.
كان إيميل دوركايم عالم الاجتماع الفرنسي، يقول إنّ كل شيء يُفسَّر بالدين. وأغلب الظن أيضاً أن كل شيء يفسَّر بالاقتصاد أيضاً.
لذلك يرتبط الحديث عن الأمل في مجتمعاتنا اليوم بالحديث عن الواقع الاقتصادي، وهو حديث ليس نفسه في كل البلدان العربية، يختلف من قُطر إلى آخر وإن كان منسوب الأمل لدى الجميع يتراوح بين الضعيف والمتوسط.
ربما إثارة هذه العلاقة الجدليّة بين الاقتصاد والأمل تفرض نفسها في البلدان التي عرفت ما يسمى الربيع العربي، باعتبار أن شعوب هذه البلدان ثارت يأساً ورغبةً في صنع الأمل وغد أفضل وتوزيع للثروة أكثر إنصافاً.
ولكن المشكلة أن الاقتصاد في هذه البلدان عرف تأزماً أكثر عمقاً إلى درجة أن الكثير من شعوب هذه البلدان تنظر إلى أيام ما قبل الثروة بعين الحسرة.
طبعاً لا يهمنا تفكيك هذه الحسرة وتمييز الحقيقي فيها عن الوهمي، ولكن الواضح جداً أن الأمل تراجع بعد أن شهد في السنة الأولى لما بعد الثروة ارتفاعاً في المنسوب. وكما نعرف عندما يتراجع الأمل فإن انعكاساته أقوى مما كان عليه من ضعف.
لا شك في أن البلدان التي تعرف صراعاً، مثل اليمن وسوريا والتي يفتقر اقتصادها إلى شرط الاستقرار لدوران عجلة التنمية، لا مجال للحديث فيها عن الاقتصاد ولا عن الأمل، حيث الأمل في هذين البلدين يتجه نحو عدم فقدان عزيز أو ألا يتهدم بيت يسكنون فيه وتسكن فيه ذاكرتهم وذكرياتهم. فنحن معنيون بقياس الأمل في بلدان تدّعي الانتقال الديمقراطي، وقدمت فيها النخب الحاكمة بعد الثورة وعوداً بالتنمية وبتجاوز مظاهر التهميش ومعدلات الفقر والبطالة القاصمة لظهور الشباب.
بمعنى آخر فإن الثورات العربية ألزمت نفسها وجوباً بالأمل وبتحقيقه، ورفعت من سقف الوعود والتعهدات والالتزامات. حمّلت نفسها عبئاً أكثر من طاقتها هو عبء الأمل: أمل مشوش وثقيل، لأنها نخب أضاعت خريطة الطريق ولم تربط بين الاقتصاد والأمل، ولم تتوقف ثانية من التفكير الجاد والحقيقي حول العلاقة الجدليّة بينهما.
لذلك ففي تونس مثلاً البلد الذي انطلقت فيه شرارة الثورة وعاش فيه الشعب التونسي في الأشهر الأولى حماسةً حقيقية في تجديد الثقة والأمل، نلاحظ أن الأمل تراجع إلى درجة يظهر فيها كأنه لم يرتفع ولم يبرح نقطة الضعف. فالمشاركة في الانتخابات السابقة (2014) أقل من المشاركة في انتخابات المجلس القومي التأسيسي في أكتوبر (تشرين الأول) 2011، وسجلت تونس مؤخراً ضعفاً في الإقبال على التسجيل في الانتخابات البلدية القادمة رغم أهمية هذه الانتخابات. وأشارت استطلاعات الرأي إلى أن التراجع يشمل فئة الشباب التي باتت تعرف عزوفاً يحيلنا مباشرة إلى عزوف ما قبل الثورة. وفي هذا السياق أظهرت إحدى الدراسات أن 65 في المائة من الشباب يعتقدون أن الثورة لم تحقق أهدافها.
وإلى جانب هذه الأرقام والنسب التي تبقى نسبية طبعاً فإن هناك مظاهر أخرى كافية في حد ذاتها لتأكيد ضعف الأمل في صفوف الشباب التونسي، حيث تزايدت مظاهر العنف وأحداثه وتكاثرت محاولات الهجرة السرية عن طريق البحر وإلقاء الشباب بأنفسهم في عرض البحر مع استعداد تام للموت غرقاً أو الوصول إلى شواطئ أوروبا.
وعندما ننظر في حال الاقتصاد التونسي تصبح هذه الظواهر أكثر فهماً، حيث ضعف الاستثمار وصعوبة الحصول على موطن شغل وتدهور القدرة الشرائية... اقتصاد فشل حتى الآن في خلق الأمل الحقيقي الملموس.
إن الاقتصاد يمثل الرئة التي يتنفس بها الأمل في الحاضر والمستقبل عند الشعوب، وبلداننا، مع اختلافات وفوارق جزئية، لم تواجه علاقة الاقتصاد بالأمل مواجهةً تجمع بين الصراحة والذكاء.
إنّها علاقة بها يكون الانتماء إلى الدولة والوطن والذات والمجتمع، بل بها تكون سلطة الدولة وهيبتها، وبها يتصالح المرء مع طموحاته وحاجياته، وبها يكون السلام والتضامن الاجتماعيين.
الأمل ضعيف في بلداننا لأن اقتصادنا ضعيف. هذا جزء وافر من الجواب وليس كله.