سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

لغز الصين الحريري

بمقدورك أن تقول عن الصين الشيء وضده، وستجد دائماً سنداً وبرهاناً. ذلك أن بلاد «الين واليانغ» لا تكشف عن وجهها ببساطة لمن يريد أن يقرأ ملامحها. وغالباً ما أحب الصينيون - رغم قفزاتهم التي أبهرت وفاجأت - الحديث عن بلدهم كدولة تتلمس طريقها، ولا بأس في أن يقال أيضاً، بأنه بلد ينمو ويحبو، ويسعى بتعثر إلى غدٍ أفضل. كل هذا لا يزعج الصينيين ولا يؤرق زحفهم الحثيث للقبض على أسواق العالم.
جاءت متأخرة جداً، النزعة الاستعراضية للقوة، من قبل بكين التي رأيناها في المؤتمر الوطني التاسع عشر للحزب الشيوعي. يبدو الرئيس شي جينبينغ عازماً على انتهاج نهج جديد بالفعل، مدفوعاً برغبته في ولاية رئاسية إضافية. العام الماضي كشفت الصين عن طائرتها الشبح التي قيل إنها طورتها لتواجه مقاتلات أميركية مثل «إف 22» و«إف 35»، رفعت أيضاً نفقاتها الدفاعية، لتصبح أكبر ثاني ميزانية عسكرية في العالم، صار لها أول قاعدة عسكرية خارج حدودها في جيبوتي، ويبدو أن العين على قواعد أخرى ستنمو سريعاً.
مطمئنون الأميركيون الذين لهم مئات القواعد، إلى أن الصين تحتاج أكثر من عشر سنوات إضافية لتقترب من تحقيق جزء من حلمها. لكنهم ينظرون بعين الأرق إلى شبكة أخطبوطية تبنيها مع حلفاء وصولاً إلى حدودهم في أميركا اللاتينية. ويرى أحد الجنرالات الكبار في الولايات المتحدة أنها عام 2025 ستكون الخصم الأكبر لبلاده.
لم تعد الصين تداري عضلاتها، فالرئيس شي جينبينغ، في خطابه الافتتاحي للمؤتمر الوطني، فعل ما لم يجرؤ عليه سابقوه. أعلن صراحة عن برنامج جريء، أبدى نيتة في لعب دور أكبر في الشؤون الدولية. قال إن بلده صار «قوة عظيمة يعتد بها في العالم»، وإن النمو الاقتصادي الذي حققته تحت الحكم الشيوعي منح بلدان العالم النامي «خياراً جديداً».
ضرب الرجل يده على الطاولة محذراً كل من تسول له نفسه اقتطاع لقمة من القارة الصينية. شرح أنه لن يتسامح مع الحركات الانفصالية، أو يتخلى عن بحر الصين الجنوبي، أو يهادن رغبات تايوان.
لم يتأخر وزير خارجية أميركا في الرد. بعد ساعات فقط أجاب تيلرسون أن «الصين أحياناً تتصرف خارج المعايير الدولية» وهي «مجتمع غير ديمقراطي»، لذلك فإن الولايات المتحدة ترغب في تعزيز التعاون مع الهند لمواجهة «تمدد النفوذ الصيني في القارة الآسيوية».
بما أنك تستطيع أن تقول، دائماً، عن الصين الشيء وضده، لا يزال متخصصون في الشأن، يرون أن كل ما تريده الصين هي أسواق لتجارتها، وسطوة تسمح لها ببيع منتجاتها. المؤرخ الفرنسي المعني بالصين فرنسوا غودمان يطمئن مواطنيه إلى أن «مطامع الصين مادية وأن همها إخراج الملايين من فقرائها في الأرياف من عوزهم، ولا يعنيها أن ترث من الغرب أزمات الكون ومآسيه السوداء».
تُحير الصين الأوروبيين وهي تزحف إليهم بما سمته ببراءتها المعهودة «طريق الحرير». شبكة بحرية، عبر قناة السويس وصولاً إلى روتردام في هولندا. قطارات، وطرق برية تمر عبر آسيا الوسطى مروراً بموسكو ووصولاً إلى باريس. الأوروبيون يحللون إن كان هذا الأخطبوط سيبقى تجارياً، وهل عليهم أن يتعاونوا ليزدهر الجميع معاً، وهم الذين يسعون إلى فرص عمل؟ أم أن بكين تخطط للحلول مكانهم وقطع أذرعهم؟
في الخطاب الطويل، أخرج شي جينبينغ الجني من القمقم، وهو يبشر بالانفتاح وتحرير التجارة، ويؤكد أن الماركسية (على الطريقة الصينية) هي الحل. هذا ما يسميه بعض أعضاء الحزب الشيوعي الصيني، هو الأكبر على وجه البسيطة (89 مليون عضو منتسب)، «الإبداع» و«الابتكار» في رسم استراتيجيات لا تستوحي سوى تراثها، وترفض استنساخ الأنظمة الغربية.
لذلك تمكنت ربما بلاد التنانين من أن تصبح أكبر مصنع للتكنولوجيا على وجه الأرض، دون أن تخترعها. وأن تعتبر اقتصادات الدول النامية كنزاً دفيناً يستحق تنميته، بينما كان الآخرون لا يرون فيها غير أرض للنهب والاستيلاء على الثروات. ترفع الصين إنفاق جيشها 250 مليار دولار سنوياً، ولا تدع خصومها يفهمون، ما هي القوة القتالية لمليون ونصف مليون جندي، قد لا يكونون سوى أعداد قليلة الفعالية. تقف ضد كوريا الشمالية وتجاربها النووية المستفزة، وصواريخها الباليستية، لكنها لا تحرك ساكناً أو تتخذ إجراء حاسما.ً تريد تأديب بيونغ يانغ وتسعى لأن يبقى الاستقرار والثبات في شبه الجزيرة على حاله. يترقب الجميع تباطؤ النمو ويراهنون على اهتزاز كبير بسبب المديونية القياسية التي جازفت بها الحكومة الصينية الحالية، لكن ثمة من يقول أيضاً إن شي جينبينغ، الرجل الصلب، سيتمكن كما فعل دائماً من إيجاد الحلول التي توصله لإخراج كل معوزي الأرياف - كما وعد تماماً - من بؤسهم بحلول عام 2022.
بين من ينتظر السقوط الصيني، ومن يستعد لمواجهة بعبع قادم سيلتهم الأخضر وما يبس، تبقى سياسات بكين لغزاً لمن لا يعرف الذهنية، وخبر ثقافة لا تشبه العقلانية الغربية، ولا الرومانسية العربية. التنين - كما في الأساطير والفنون الصينية - خيّر بطبعه، لكنه سلطوي ويبصق نار جهنم في وجه من يريد عند الضرورة.