إميل أمين
كاتب مصري
TT

أوروبا... زمن الانفصاليين الجدد

حالة من الاندهاش يمكن أن تُلمّ بأي محلل سياسي يتابع المشهد الأوروبي في حاضرات أيامنا، ومردّ ذلك أن أوروبا التي سعت في طريق الوحدة والاتحاد بشكل اعتبره العالم نموذجاً لحركات الاندماج، نراها اليوم تمضي في طريق التفكيك والانفصال، وباتت دعوات القوميات عالية الصوت، وأصحاب إرادات التقسيم يمضون في طرق الاستفتاء، دون أن يعيروا التفاتاً لرغبات شعوب الدول التي تحضنهم جغرافياً وديموغرافياً.
كنا نظن في عالمنا العربي أن حمّى الانفصال والتقسيم قد أصابتنا نحن فقط، وقد قال البعض إن هناك مؤامرات غربية سعت وتسعى لتقسيم العالم العربي، ويمكن أن يكون الرأي صواباً ويحتمل العكس، لكن ماذا نقول في حال الدول الأوروبية؟
الشاهد أن التركيز في الأشهر القليلة الماضية ينصبّ على أوروبا، لكنّ هذا لا يعني أن الولايات المتحدة ليست بعيدة عن حركات الانفصال في ولايتي كاليفورنيا وتكساس، وهما من أكبر الولايات وأغناها، وميزانية إحداهما 1.4 تريليون والثانية 1.9 تريليون دولار، أي أكثر من دول أوروبية فما بالنا بدول أفريقية، وكلتاهما تطالب بالانفصال عن الاتحاد الفيدرالي الأميركي.
على أن السؤال المحتدم الآن: هل باتت رياح الانفصال تجتاح القارة الأوروبية العجوز؟
الجواب يسيرٌ خبرياً، لكنه عسيرٌ سيسيولوجياً، ذلك أن شعوب تلك البلدان تكاد تكون سبيكة اجتماعية واحدة، لا تمايز عرقياً أو طائفياً فيها أو بها، وجميع سكانها تشملهم حاضنة المواطنة بعكس دول العالم الثالث، حيث الاختلاف مذهبياً وطائفياً، وعرقياً وجنسياً يكاد يكون الأصل في الأمور.
هنا يعنّ لنا التساؤل: هل هناك أزمةٌ ما خافية على الأعين تدفع البعض إلى محاولة التمترس من جديد وراء حدود جغرافية، لا سيما في أزمنة انهارت فيها السدود وأُزيلت الحدود عبر العالم الافتراضي السيبراني الذي وصل الجميع بعضهم ببعض في وحدة إنسانية غير مسبوقة؟
علامة استفهام أخرى: هل الخوف من ضياع اللمسات والمسحات الخاصة للشعوب المختلفة كاللغة أو الأصل القديم أو التقاليد التراثية هو السبب؟
لا تزال الإجابات غير واضحة وإن كان البعض قد أخذ يميل إلى القول: إن الاقتصاد هو السبب، بمعنى أن بعض الأقاليم والقطاعات الجغرافية والديموغرافية الأوروبية، باتت تتشكى من تحميلها بأعباء مالية واقتصادية لعدد آخر من الدول أو الأقاليم الهشة اقتصادياً، وربما كان هذا السبب تحديداً وراء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مع ما سبّبه ذلك من اهتزازات للاتحاد الأوروبي، ومن ناحية أخرى نجد دعوات مشابهة في كلٍّ من فرنسا وألمانيا اللتين أضحيتا عمود الخيمة الأوروبية فقط بعد خروج بريطانيا، ولولا هزيمة ماريان لوبان في انتخابات الرئاسة الفرنسية السابقة، لربما كانت أوروبا تترنح اليوم تحت ضربات انفصال أشد وقعاً وأقوى تأثيراً.
على أن أزمة إقليم كاتالونيا في إسبانيا وتطوراتها وما تسببه من أزمات، قد لفتت الأنظار إلى ما هو أسوأ، أي إلى موجة انفصالات أوروبية جديدة، كأن القارة التي سعت حثيثاً إلى الوحدة، ها هي تعيش زمن الانفصاليين الجدد، إن جاز التعبير.
نظرة قريبة متأنية لما يجري في إقليم كاتالونيا تصدمنا من جراء الفعل وردّات الفعل عليه، الأمر الذي تنبهت إليه الصحافة الأوروبية، سيما أنه أظهر الأوروبيين كأنهم مصابون بحالة «ازدواج أخلاقي» يندر أن توجد في دول العالم المتقدم، تلك التي عرفت طريقها جيداً إلى التنوير والحرية، إلى الاستقرار والديمقراطية.
خذ لديك، على سبيل المثال لا الحصر، ما جرى في عملية استفتاء سكان كاتالونيا نهار الأول من أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، سيما أن مشاهد العنف التي جرت بها المقادير هناك، لم تكن أبداً لتليق بدولة حضارية وتراثية وإنسانية بوزن إسبانيا... لقد تساءل الجميع: ألم يجد الكاتالونيون طريقاً أفضل من تنظيم استفتاء وفرضه رغم أنه يتعارض مع الدستور الإسباني؟ ثم ألم تجد حكومة البلاد المركزية طريقاً أفعل وأنجح من العنف الذي يتبدى للجميع لوقف عملية التصويت؟
لقد كان المشهد خارجاً جداً عن أطر العملية السياسية الديمقراطية التي عرفتها أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الساعة، لكن من الواضح أن صوت الاقتصاد كان يعلو على أي صوت آخر، فالناتج القومي لكاتالونيا مرتفع بـ16 في المائة عن باقى إسبانيا ويوجد هناك عدد أكثر من السياح، وجامعات أفضل، وضيعات أكبر، وفرص الحياة تبقى أطول مما هي عليه في باقى البلاد، لكن ما حاق بأحداث يوم الاستفتاء كان مليئاً بالمرارة، وقد اعتبره عدد بالغ من أساطين السياسة في أوروبا يوماً حزيناً في أوروبا، فالسعي إلى الانفصال لم يكن هو الطريق السديد نعم، لكن استحقاقات الديمقراطية تشير إلى أن أهالي كاتالونيا فقط وحدهم من لهم الحق في تقرير هذا المصير، وعلى الجانب الآخر كان تصرف الحكومة المركزية الإسبانية يليق بالديكتاتوريين وليس سلوكاً ينتهجه الديمقراطيون.
زمن الانفصاليين الجدد، في واقع الحال، يبدو كأنه عدوى قاتلة أصابت أوروبا، سيما بعد أن صوّت سكان إقليمي «لومبارديا» و«فينيتو» الإيطاليتين على الانفصال الأحد الماضي، ومن ورائهما ينتظر سكان كورسيكا الفرنسية وفلاندرز البلجيكية وبافاريا الألمانية... هل باتت وحدة الأوروبيين في مهبّ الريح؟