بسام الكتبي
TT

سحر لندن

لندن وما أدراك ما لندن؟! عندما كنت في السادسة عشرة من عمري قرر والداي الهجرة إلى لندن، وقد حرصت حينها ان لا أخبر أحداً من اصدقائي عن حقيقة وجهتي للهجرة سوى التخطيط لها وقرب موعدها، ومع اقتراب يوم السفر قررت ان أخبر أحد أعز أصحابي أن وجهتي هي لندن وكان ملماً بجغرافية العالم وأخباره وعاشقاً للتواصل من خلال المراسلة بأكبر كمية من الأصدقاء حول العالم، وكان رد صاحبي مفاجئاً نوعاً ما؛ فقد قال: كنت أظنك مهاجراً لبلد إسكندنافي (إسوة بموجة الهجرة في ذلك الوقت) وكنت فرحاً لك، ولكن شعوري الآن قد تغير فأنا أحسدك الآن لأنك ذاهب لمكان مميز جداً، حقيقة كان وقع كلماته مفاجئاً واكتفيت بقولي له لو كنت مكاني لتمنيت لك كل الخير والتوفيق.
قدمنا للندن في أول التسعينات محملين بأحلامٍ واعدة، ولكن الواقع كان مغايراً لم تكن جنة النعيم، بل كانت مدينة قاسية جداً تحتاج للكثير من التأقلم والصبر وبالأخص لمن لا يتقن لغتها، وبشكل عام كان مستوى المعيشة فيها أقل مما خبرته في سابق عهدي. وكان التحدي فيها البناء من جديد. فكان لكل فرد من أفراد العائلة تحديا خاصا به؛ فقد كان لنا الأبناء إتقان اللغة وإتمام التحصيل العلمي بكل مراحله، ولوالدي كان البحث عن مصدر رزق جديد يعيل العائلة ويحسن أوضاعها، وقد سخر الله لنا أصدقاء أوفياء سبقونا بالقدوم والإقامة في مدينة الضباب وكان لهم دور وفضل كبير في إحتضاننا وتوجيهنا والمساعدة في تحصيل حقوقنا كمهاجرين. وما إن دخلنا في المنظومة البريطانية وأصبحنا مقيمين حتى فتحت لندن ذراعيها مرحبة بنا، وتساوينا ببرهة قصيرة بالحقوق والواجبات مع أي مواطن بريطاني، نعم جميع الحقوق من دون استثناء!، فالذي لا يملك عملاً توفر الحكومة له راتباً يسد حاجته و منزلاً يأويه؛ وطبابة وتعليماً مجانياً كان يصل لحد التعليم الجامعي الى فترة قريبة.
هذا العطاء الإنساني والتكافل الإجتماعي اللا محدود مكن عوائل المهاجرين من النهوض مجدداً وتحصيل العلم والمضي قدماً بكرامة واكتفاء ذاتي نحو مستقبل أفضل بخطى حثيثة وواثقة.
و بعد البدايات المتواضعة لجميع المهاجرين يأخذ التطور مجراه، ويلتحق طلاب الأمس بسوق العمل ويشترون البيوت ويركبون الفاره من السيارات ويكونون الأسر الكريمة، فاقتصاد لندن (قبلة المستثمرين) فيه من الرحابة ما يمكنه من استيعاب جميع الخريجيين والباحثين عن فرصة عمل، فالقاعدة هنا من جد لا بد أن يجد.
وصلت أخبار لندن لكل مهاجر حالم، حتى باتت قبلة لجميع المهاجرين من جميع أصقاع المعمورة، فتكونت مدينة من الصفيح للمهاجرين في الجانب الفرنسي من القناة الإنجليزية أبوا قاطنيها إلا الوصول إليها وما من شيء سواها يضحون بالغالي والنفيس لوصول بيت القصيد.
ومع مرور السنين كبرت الجاليات المهاجرة والعربية الى حد تكوين فرص عمل واقتصادات جديدة خاصة بها لسد حاجاتها، فعلا سبيل المثال كان التسوق الأسبوعي يتطلب رحلة طويلة لشراء اللحم الحلال وما الى ذلك؛ أما الآن فقد أصبح في كل منطقة من مناطق العاصمة محلات للبقالة توفر للمتسوق ما يشتهيه ويطلبه من منتجات تكاد لا تميز عن تلك التي  في بلده الأم، و فتحت مئات المطاعم تبيع الأكل العربي بجميع أصنافه، ومحال حلويات .... ووفر نمو تجارة التجزئة الظروف لقيام تجارة الجملة وإنشاء المصانع لتوفير الأكل والخدمات والإلكترونيات والأثاث...، وقد بات المهاجر في لندن لا يشعر بمرارة الغربة، فأصبح ياكل ويلبس ويختلط بابناء بلده متى شاء إن أراد؟
إن التنوع في هذه المدينة لا مثيل له في العالم، فهي تحتوي ومن دون مبالغة سكاناً من جميع جنسيات العالم، وهي توفر ما يلزم لكل مستويات الدخل من الأغنياء الى الطبقة الوسطى الى الفقراء؛ ففي مركز المدينة يجد الأغنياء والسياح الأثرياء أرقى المطاعم والمسارح والملاهي ومراكز التسوق التجارية الكبرى، وفي الوقت عينه تجد محلات تجارية كثيرة تؤمن  لمحدودي الدخل أسعارا متهاودة وتكاد تكون بخسة في موسم التنزيلات.
تعد لندن الان من أكثر الوجهات السياحية رواجاً في العالم. تزاحمت رؤوس الاموال و اصحابها للاقامة فيها و شراء العقارات و تدريس ابنائهم في جامعاتها الرائدة و المتصدرة عالمياً، و العلاج في قطاعها الصحي المتطور جداً، هذا الجذب اللندني جعل أسعار العقار والإيجار فيها من الأغلى عالمياً وأصبح الاستثمار في هذا القطاع من الاستثمارات العربية المفضلة؛ فهو ذو عائد مضمون ووفير على المدى المتوسط وطويل الأجل.
سحر لا يتوقف ومطار لا يهدأ وتجدد لا يكاد يصدق وطبيعة متألقة خضراء غناء تسر الناظرين، وشعب ودوود واع يؤمن بالتعددية وتكافؤ الفرص، هذه هي مدينتي (لندن).