عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

مئوية وعد بلفور... نقد الذات بدل البكائيات

عربياً، لا يُذكر وعد بلفور إلا وتُرفَق به صفة «المشؤوم»؛ فالوعد الذي يصادف اليوم ذكرى مرور مائة سنة على إعلانه كان بالتأكيد مناسبة مشؤومة وكارثية على الفلسطينيين، ومصيبة للعرب، ونقطة تحول في تاريخ المنطقة جرّت معها كثيراً من الويلات والحروب والنكبات. قصة الوعد معروفة، والأسطر القليلة التي احتوتها الرسالة البريطانية التي تضمنت الوعد ببذل كل الجهود لتحقيق حلم الصهيونية في إقامة وطن لليهود في فلسطين، تكاد تكون محفوظة لكثيرين في المنطقة، خصوصاً بين الفلسطينيين.
في الذكرى المئوية للوعد يمكن للمرء أن يكتب «مناحة» تُضاف إلى سجل طويل من البكائيات المكتوبة عنه على مدى السنوات، لكن هل هذا هو المطلوب؟ وهل سيغير ذلك شيئاً في الواقع؟
أصوات كثيرة انطلقت تطالب بريطانيا بالاعتذار عن الوعد وعما سببه للفلسطينيين وللمنطقة، وهو ما ظلت الحكومات البريطانية ترفضه حتى اللحظة. هذه المطالبات جاءت مقرونة هذه المرة بالتعبير عن الغضب بعدما قررت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي تحويل الذكرى المئوية إلى مناسبة «احتفالية» دعت إليها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. ورداً على مطالبات «الاعتذار» قالت ماي إنها تحتفل بالمناسبة بفخر وتشعر بالاعتزاز للدور الذي قامت به بريطانيا في إنشاء إسرائيل. هذه الخطوة الاستفزازية وُوجِهَت بعاصفة من الغضب الفلسطيني، كما انتقدتها جهات داخل بريطانيا، وأعلن سياسيون، من بينهم جيريمي كوربن زعيم حزب العمال المعارض، رفضهم المشاركة في احتفالية رئيسة الوزراء التي تبحث عن أصدقاء بينما تحاصرها الأزمات، وتتطلع إلى شراكات اقتصادية وتجارية تواجه بها معضلة الخروج من الاتحاد الأوروبي (البريكست).
احتفالية ماي قد تقول الكثير عن تفكير ووضع رئيسة الوزراء البريطانية، لكنها تقول أكثر عن الوضع العربي الراهن؛ فبريطانيا ليست وحدها التي ترى التيه الفلسطيني والضعف العربي، وتعرف موازين القوة في المنطقة، ومن واقع ما تراه وتعرفه، لا تشعر بأنها قد تتضرر من المفاخرة بالوعد أو بدورها في إنشاء إسرائيل، كما لا ترى ما يدفعها لتقديم اعتذار. الحقيقة الأمرّ والأدهى من ذلك أنه حتى لو تطوعت بريطانيا ببيان اعتذار، فإنه لن يغير في واقع الأمر شيئاً، لأن هذا الواقع لن تغيره البيانات بل الإرادات، وهي غائبة في الزمن الراهن.
بدلاً من البكائيات، هناك حاجة لوقفة نقدية مع الذات، وللتأمل فيما آلت إليه الأحوال خلال قرن من الزمان منذ صدور بيان أو «إعلان بلفور»، والبحث الجاد في الأسباب على أمل استخلاص الدروس والعبر. ماذا حققت إسرائيل وأين أضحت، وماذا حقق الفلسطينيون والعرب على صعيد القضية التي لا يخلو بيان عربي من وصفها بـ«المصيرية»، أو «المحورية»، أو «المركزية»، أو غيرها من المفردات التي باتت خالية من أي مضمون حقيقي؟
قد يقول قائل إن إسرائيل كانت مدعومة من القوى الكبرى، وهو أمر صحيح ولا جدال فيه. لكن العرب كانوا مدعومين أيضاً من حلفاء أقوياء في فترات من تاريخهم، والفلسطينيون كانوا يحظون على الساحة الدولية بتأييد أوسع مما كانت تحظى به إسرائيل. الفارق في تقديري أن الإسرائيليين ظلوا ملتفين حول أهدافهم، وسخّروا كل طاقاتهم لتحقيقها، بينما تشتت الفلسطينيون وبقية العرب وطغت عليهم خلافاتهم التي لا يمكن القول إنها كلها بسبب إسرائيل.
الفلسطينيون أكثر من غيرهم يحتاجون إلى وقفة مع النفس أمام تاريخ من الفرص المهدَرَة، ومن القراءات الخاطئة، ومن الانقسامات التي وصلت إلى حد الاحتراب وتصفية الحسابات بالاغتيالات؛ فمهما قيل أو تردد من شعارات عن «قضية العرب الأولى»، فإن القضية تبقى قضيتهم في المقام الأول والأخير، وكيفية تعاملهم معها ودور قياداتهم فيها والتفافهم حول أهدافهم سيكون إما محفزاً أو مثبطاً لهم، ولكل من يدعمهم ويتعاطف مع حقوقهم.
المجال لا يتسع هنا لمناقشة كل الخطوات الخاطئة، أو تقديم كشف حساب كامل عن تاريخ الخلافات العنيفة والانقسامات الكثيرة التي أضرت بالفلسطينيين وقضيتهم، لكن تكفي الإشارة إلى ما حدث منذ اتفاق أوسلو وحتى اليوم، أو إلى ما أصاب الفلسطينيين من جراء الصراع بين السلطة الفلسطينية وحركة حماس في السنوات التي أعقبت ملابسات سيطرة الحركة الإسلامية على غزة. لقد دفع الفلسطينيون ثمناً باهظاً على كل الأصعدة جراء هذا الصراع قبل أن يتفقوا أخيراً على توقيع اتفاق مصالحة في القاهرة بعد وساطات عربية وضغوط ناجمة عن أوضاع المنطقة، وهو اتفاق يتخوف كثيرون ألا يصمد طويلاً في ظل المواقف والحسابات المتباينة بين الطرفين، وفي ضوء التاريخ الحافل بالانقسامات الفلسطينية.
مئوية وعد بلفور قد تكون فرصة لنقد الذات وللتأمل في كل أخطاء الماضي التي أسهمت في أن تصل الأوضاع إلى ما وصلت إليه. والفلسطينيون قبل غيرهم يحتاجون إلى وقفة كهذه، وإلى إدراك أنهم في أمَسّ الحاجة إلى توحيد صفوفهم وتحديد أهدافهم، خصوصاً في الوقت الذي يراهنون فيه على السلام، ويكثر فيه الكلام عما أُطلِق عليه «صفقة القرن»!