طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

فقر الفكر وفكر الفقر

الإبداع دائما ما يأتي في أجمل وأعمق صوره له عندما تتوفر روح المغامرة، وعلى الجانب الآخر، كلما خف هذا الصوت المشاغب والمتمرد بطبعه، باتت العملية الفنية أشبه بمعادلة حسابية فاقدة الروح تضيف ربما للفنان رقما كميا، إلا أنها لا تمنحه إنجازا على مستوى الكيف.
لديكم مثلا أحد المغامرين الأوائل في السينما، إنه الساحر بالمعنى المباشر وأيضا المجازي للكلمة، الفرنسي جورج ميليس، الذي قرر أن يكتشف تفاصيل تبدو الآن بمقياس زمننا الحالي بدائية، ولكنها قطعا كانت باهرة في مطلع القرن العشرين، شاهدنا شيئا مختلفا في التعبير عن الحركة واللون وتغيير حجم اللقطة والمؤثرات البصرية والسمعية وغيرها، وهكذا جاء فيلمه «رحلة إلى القمر»، مغامرا وجريئا في الوقت نفسه، وذلك لأنه لم يكن صدى للشائع والتقليدي والمتعارف عليه، منذ أن اخترع الأخوان لوميير (لويس وأوجست) السينما، ووضعا أول القواعد وهي الواقعية، بينما رأى ميليس أن روح السينما هي الخيال.
موزارت كان أيضا يملك من روح التمرد كثيرا، فتحرر وقدم للموسيقى قرابة 700 عمل، ورحل وهو في الـ33 من عمره، لنجد أن موسيقاه توصف للمرضى الذين يعانون من مشكلات نفسية، كما ثبت في بعض الدراسات أن الأبقار تُدر كمية وفيرة من الألبان، لو استمعت إلى سيمفونية عليها توقيعه.
الشيخ سيد درويش كان بالمقياس الشرقي ثائرا، ورحل وهو في الـ31 من عمره ولا يزال يحظى بلقب المجدد الأول، أعماله حتى الآن تحتل مكانة خاصة، حتى إن الأخوين رحباني (عاصي ومنصور) عندما قررا تقديم شيء من الإبداع المصري الخالص استعانا بسيد درويش، وكانت البداية عندما غنت فيروز في الستينات «طلعت يا محلى نورها شمس الشموسة».
المغامرة هي السر لأن درويش لم يستسلم لأستاذه الشيخ سلامة حجازي، بل قرر أن يسبح في مياه فنية لم يسبقه إليها أحد، كما أن الأخوين رحباني في توزيعهما الموسيقي لأغانيه القديمة أضافا روح العصر.
بيكاسو مثلا كان يتجدد من مرحلة إلى أخرى بدأ تكعيبيا، بل ووضع مع آخرين بذرة هذه المدرسة، إلا أنه سرعان ما تمرد حتى على نفسه، وإن كان هو يقول: «أنا أرسم اللوحة بما تفرضه علي من دون أن أضع منهجا سابقا للتعبير».
ما أراه الآن على الساحة الدرامية والغنائية هو نوع من الاستسهال، كلما نجح عمل فني قرروا تقديم جزء ثان، وكأنها عدوى الكسل، وكما وصفها الأديب الراحل الكبير يوسف إدريس، بتلك الجملة الموحية «فقر الفكر وفكر الفقر»، وهكذا اكتشفت مثلا أن أكثر من مسلسل رمضاني حقق رواجا، قرر صُناعه استكماله وبالبطل نفسه وفريق العمل، أملا في تكرار النجاح، رغم أنه من البداية لم يكن هناك جزء أول حتى يصبح لديهم جزء ثان، إنه فقط «الشعبطة» في قطار نجاح سابق.
لقد شاهدنا مثلا في رمضان قبل الماضي، كيف أن الجزء السادس واحد من أشهر المسلسلات العربية نجاحا وأعني به «ليالي الحلمية»، قد حقق فشلا ذريعا، ولم تشفع له قوة الدفع، التي توفرت له خلال الأجزاء الخمسة التي استمرت حتى منتصف التسعينات، ولأن النجاح له ألف أب، والفشل يتيم، فإن الكل تبرأ من المسلسل.
الفنان عليه أن يُعلن التمرد، ليس فقط على مفردات الزمن الذي يعيشه، ولكن على نفسه أولا، حتى لا يصبح صدى لهذا المنهج الذي حذرنا منه يوسف إدريس قبل أكثر من 30 عاما «فقر الفكر وفكر الفقر».