سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

طَرفَة في البرج

عندما قال طَرفَة «يأتيك بالأخبار من لم تزوّدِ»، كان يضع قاعدة علمية فيما يظن أنه يقرض الشعر. فما زلنا إلى اليوم نلقى الخبر حيث لا نتوقع. وذات مرة رافقت مجموعة من الأصدقاء إلى العشاء في «برج دبي»، فقال أحدنا ونحن في المصعد: «هل منكم من يعرف متى أصبح بناء الناطحات والأبراج ممكناً؟» فأجاب آخر: «عندما أمكن شبك الفولاذ ببعضه على هذا الارتفاع». وقال ثالث: «عندما اخترعت الرافعات». وقال الرابع: «عندما أمكن الحفر عميقاً في الأرض».
وضحك طارح السؤال وهو يحاول أن يسلينا في رحلة المائة دور، وقال: أصبح ذلك ممكناً عندما اكتشف المهندسون أن في إمكانهم صناعة مصعد يتسلق هذا الارتفاع في سرعة وهدوء. ولولا عنصر السرعة، لما كان للمصعد أي قيمة. لقد تغير عالمنا للمرة الأولى حقاً عندما بدأ الإنسان في تقليص المسافات بينه وبين غايته: الباخرة، القطار، السيارة، الطائرة، التلغراف، الهاتف، والمصعد... وهلمَّ جرا.
تفاجأ بأن العناصر الأكثر بساطة هي الأكثر أساساً. اخترع إسحاق ميريت سنغر، ماكينة الخياطة للمنازل، فتغيرت حياة النساء. لكن ليس بسبب الماكينة نفسها، بل لأن سنغر عندما اكتشف أن ربات البيوت غير قادرات على اقتناء الآلة المذهلة، اخترع فكرة البيع بالتقسيط! فكان اختراع سنغر الأهم التقسيط؛ لا العقل الميكانيكي. ومعه بدأت الثورة الاستهلاكية التي مكّنت جميع الناس من أن تكون لديهم ثلاجات وغسالات وسيارات وسواها... ثورة الاستهلاك، أو إذا شئت، ثورة الاقتراض، والـ«كريدت كارد»، الذي تحمله في جيبك الصغير حول العالم بدل أن تحمل مصرفاً. أخبرني شقيقي في كندا أنه يقترض باستمرار ولو من دون حاجة، لأنه يجب أن تكون لديه سمعة ائتمانية في حال الاضطرار.
غيّر الإنجليزي مايكل فارادي إيقاع العالم عندما اكتشف توليد الكهرباء في القرن التاسع عشر. منذ بدء الحضارات وحتى القرن الثامن عشر، كانت الطاقة الوحيدة التي عرفها الإنسان هي طاقته وطاقة الحيوانات التي عرف كيف يسخرها، إضافة إلى ما توصل إليه في طاقة الريح والمياه.
لكن توماس أديسون تلقف عصر الكهرباء لكي ينقل العالم من زمن المصادفات إلى زمن البحث والعلم المسبق. وُلد عبقري العصور وهو يعاني من صمم جزئي. وبعد أول ثلاثة أشهر من دخوله المدرسة الابتدائية طُرد باعتباره متخلفاً عقلياً، فتولت أمه تعليمه، وهي مدرسة سابقة. وكان والده يضربه. وبدأ العمل في الثانية عشرة. ومنذ تلك الساعة، تغير وجه البشرية.