سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

حنين مليء بالمآخذ

يروي الدكتور جابر عصفور في «بعيداً عن مصر»، الدار اللبنانية المصرية، قصة مرحلتين من التدريس خارج جامعة القاهرة؛ الأولى أستاذاً زائراً في جامعة ماديسون، ولاية ويسكونسن أواخر السبعينات، والثانية أستاذاً زائراً في جامعة استوكهولم أوائل الثمانينات. مصري، بين عالمين، الأول، أميركي ريفي شبه زراعي، والثاني سويدي متقدم لا تسبقه في المستوى العلمي سوى كبريات الجامعات الأميركية.
لكن في الريف الأميركي الثلجي، وفي المدنيَّة السويديّة الغارقة في الثلج، لا يفارقه الحنين إلى مصر. والحنين مليء بالمآخذ: النظام التعليمي المتهاوي، النظام الاجتماعي المتهافت، العلوم الطبيعية المتخلفة، الوضع الجامعي البادئ في التدهور، رواتب الأساتذة الجامعيين. ولكن... ولكن، الشمس تشرق في السويد ثلاث ساعات، وفي مصر ثلاثين. الدولة دافئة في السويد، لكن الناس دافئون في مصر.
ومثلنا جميعاً - خط تحت كلمة جميعاً - يرى في ويسكونسن وفي استوكهولم، أن أصدقاءه هم العرب. السوداني إسماعيل في جامعة ماديسون، والمصري عطية عامر في السويد. الأول متزوج أميركية، والثاني متزوج سويدية تعمل في وزارة الخارجية. تعرف عطية إلى زوجته في مصر. ثم جاء مَن يحذره أن عبد الناصر سوف يرمي جميع الشيوعيين في السجون، فساعدته سفارة السويد على الهرب بجواز سفر سويدي.
وعندما أصدر أنور السادات عفواً عن الذين جُردوا من جنسياتهم، عاد عطية عامر ليدرِّس في جامعة القاهرة. لكن بعكس جابر عصفور، قتله الحنين إلى السويد. ما إن انتهت السنة الدراسية حتى عاد إلى الديار الباردة. دفئه الحقيقي كان هناك.
«بعيداً عن مصر»، صورة متقدمة لـ«عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم. نسخة واقعية عن روائية علاء الأسواني في «شيكاغو». العربي أمام الغرب. الجذور المتعبة أمام الحنين الذي لا يتعب. التردد القاهر بين عالمين، واحد فيه وطن عاشق، وبلد بلا عشق. ولكن عالم جابر عصفور بلا «غربة». لا شعور بالمنفى أو بالبعد، إلا عندما يتذكر عائلته. ومثل توفيق الحكيم، يحيطه العالم الجديد بالصداقات والود. لا صدمة ثقافية. الجميع لطفاء وطيبون، بمن فيهم صاحبة «البنسيون» العجوز في استوكهولم. وهي تترك له الغرفة مضاءة من أجل أن يقرأ القرآن، كما يفعل كل ليلة قبل أن يخلد إلى النوم.
هذا فيما هو «بعيداً عن مصر». أما فيما هو قريب منها، فيتذكر يوم أُبعد من الجامعة وعُيّن في التأمينات الاجتماعية. وألحق أساتذة آخرون بوزارة التعمير. والبعض بوزارة الشؤون الاجتماعية. والبعض بمصانع الصابون، كما حدث للزعيم التشيكوسلوفاكي دوبتشيك، صاحب «ربيع براغ».