عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

إنذار جديد للبشرية

عندما يتبادل الرئيس الأميركي دونالد ترمب والرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون الشتائم والتهديدات بحرب لا تبقي ولا تذر، يشعر الناس بالقلق، لأن طبيعة الرجلين حادة ومزاجهما متقلب، حتى وإن كان المنطق يقول إنهما يهولان في الكلام، ويدركان في الواقع خطورة اللجوء إلى «خيار شمشون» والإبادة النووية. وعندما يقول بعض السياسيين والإعلاميين في أميركا إنهم يشعرون بالقلق من مزاجية وشخصية ترمب، ويدعون لإعادة النظر في الصلاحيات التي تعطي الرئيس سلطة إطلاق حرب نووية، يجد كلامهم صدى، ويثير اهتماما إلى الحد الذي جعل السيناتور الجمهوري بوب كروكر رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ ينظم جلسة استماع أول من أمس حول الموضوع.
الناس تقلقهم عادة مثل هذه العناوين، لأنهم يعرفون مخاطر أي حرب نووية، وما سينجم عنها من خسائر ماحقة للبشرية. لكنهم عندما يقرأون تحذيرات صادرة عن علماء وخبراء عن «القنبلة المناخية»، فإن أغلبهم لا يتعامل معها بالقلق والإلحاح ذاته، على الرغم من أن آثارها التدميرية لا تقل خطورة على البشرية ومستقبلها. فقبل خمسة وعشرين عاما أطلق 1700 عالم وخبير ينتمون لدول مختلفة «إنذاراً للبشرية» من مغبة التغيرات المناخية والأضرار التي لحقت بالأرض نتيجة التلوث، وامتداد الصحارى، وانحسار الغابات نتيجة التعامل السيئ مع الموارد الطبيعية واستغلالها بشكل لا يراعي التوازن البيئي الذي بدأ يختل إلى درجة الخطر. يومها ناشد العلماء والخبراء دول العالم ومنظماته الرسمية والطوعية لتبني خطوات وسياسات تمنع التردي السريع الذي يقود العالم نحو وضع مدمر للكرة الأرضية ومهدد للبشرية. وأشاروا إلى خطوات مطلوبة للحد من التلوث البيئي، وثقب طبقة الأوزون، وتقلص مساحات الغابات بسبب العمران المتسارع والاستخدام المتزايد للأخشاب، وتأثير ذلك على المناخ. كما تحدثوا عن الارتفاع في أعداد سكان الأرض وما تبعه من زيادة في الطلب على الموارد، وتراجع في خصوبة التربة بسبب الاستخدام الكثيف، وتراجع الثروات السمكية، مع زيادة في انبعاثات الغازات بسبب نشاطات التصنيع وحرق الوقود.
خلص العلماء والخبراء آنذاك إلى أن الوضع لا يمكن أن يستمر على ذلك النمط وإلا اتجهت البشرية نحو وضع لا تعود فيه الأرض قادرة على تلبية الاحتياجات المتزايدة، وتصبح حياة الناس مهددة بفعل التأثيرات السلبية للتغيرات البيئية المتسارعة. وحددوا يومها مجموعة من الخطوات المطلوبة لإعادة التناغم بين الأرض وسكانها، وإعادة التوازن البيئي الذي يمنع انقراض الحيوانات والغابات والثروات السمكية، ويضمن للبشر تلبية احتياجاتهم المتزايدة من الكوكب الذي يعيشون عليه.
لكن تلك التحذيرات لم تكن كافية لإقناع الناس والحكومات بأن الخطر حقيقي، وأن الخطوات المطلوبة لا يمكن تجاهلها، إلى أن وصلنا اليوم إلى وضع بتنا نلمس فيه حجم الكارثة البيئية والمناخية وتأثيرها على حياتنا. صحيح أن هناك خطوات نفذت، لكنها كانت قليلة وبطيئة لأن كثيرا من السياسيين خصوصا في الدول الصناعية لم يريدوا تحمل التكلفة الباهظة لسياسات المناخ، أو الحد من نشاطاتهم الاقتصادية، ولأن وعي الناس بمخاطر المناخ بقي محدوداً فلم يغيروا من سلوكياتهم أو يجعلوا من المناخ قضية كبرى تضغط على السياسيين.
اليوم وبعد 25 عاما من الإنذار الأول الصادر عام 1992، تبنى أزيد من 15 ألف عالم وخبير ينتمون إلى 184 بلداً إعلاناً جديداً اعتبروه «الإنذار الثاني للبشرية»، وربما الأخطر، من مغبة التغيرات البيئية والمناخية المتسارعة. وفي رسالة نشرت في مطبوعة «بايو ساينس» نشرت يوم الاثنين الماضي، قال العلماء والخبراء إن «البشرية فشلت في إحراز تقدم كاف لمواجهة وحل التحديات البيئية المتوقعة. والمقلق أن معظم هذه التحديات أصبح أسوأ بدرجة كبيرة».
في مقدمة بواعث القلق أشار العلماء إلى التردي المريع والكارثي في التغير المناخي، الذي باتت آثاره ملموسة وظاهرة للناس مع الارتفاع الواضح في معدلات الحرارة، والتذبذب في المواسم والأمطار، وزيادة الأعاصير والفيضانات، وارتفاع درجة حرارة المحيطات، والتهديد المتزايد بغرق كثير من الجزر والمدن الساحلية المنخفضة. ومرة أخرى ربط العلماء هذه التغيرات بانحسار مساحات الغابات، والتلوث، والنشاطات الصناعية، وحرق الوقود، والنشاط الزراعي المرتبط بتربية الأبقار لإنتاج اللحوم والألبان.
كذلك دقّ العلماء ناقوس الخطر مجدداً بسبب ارتفاع عدد سكان الأرض الذي قفز بأكثر من ملياري نسمة منذ تحذيرهم الأول، في ظل تراجع الموارد، وانخفاض الثروات السمكية، وتراجع خصوبة التربة في كثير من مناطق العالم، وشح المياه الذي يهدد بحروب في المستقبل.
مخاطر القنبلة المناخية باتت معروفة وملموسة أيضا، لكن الحكومات لا تقوم بما يكفي لدرء الكارثة، والخطوات المتخذة على الرغم من كل المؤتمرات التي عقدت ما تزال محدودة وبطيئة. بل إن دولة كالولايات المتحدة قررت أن تنسحب في ظل إدارة ترمب من اتفاقية المناخ، مثيرة حيرة العلماء وقلقهم، خصوصاً أنه قد لا تكون هناك فرصة لإنذار ثالث، إذا أدت الممارسات الراهنة إلى نقطة اللاعودة في تدمير الإنسان الكوكب الذي يعيش فيه.