مأمون فندي
أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورجتاون سابقاً، ويعمل الآن مديراً لمعهد لندن للدراسات الاستراتيجية. كتب في صحف عديدة منها «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«فاينانشال تايمز» و«الغاردين» وبشكل منتظم في «كريستيان ساينس مونوتور»، و«الشرق الاوسط». له كتب عديدة بالإنجليزية والعربية آخرها كتاب «العمران والسياسية: نظرية في تفسير التخلف 2022».
TT

شيء من الجدية في الحديث عن سيناء

إذا كانت كلها سيناء، فلماذا تحدث الحوادث الإرهابية المتكررة في شمال سيناء خلال الأعوام الأربعة الفائتة، وبالتحديد في المنطقة الواقعة بين بئر العبد والشيخ زويد وبينهما العريش، والتي كان آخرها حادث مسجد الروضة، الذي راح ضحيته أكثر من مائتي قتيل، وزعم البعض أنها حرب بين متطرفي السنة للقضاء على الصوفية في المنطقة، ولا تحدث هذه العمليات مثلاً في منطقة الجورة التي تتمركز فيها قوات حفظ السلام (MFO) التي هي من المفترض من وجهة نظر تنظيم الدولة مركز تجمع «قوات الكفار» في سيناء؟ لماذا تحدث هذه العمليات بشكل متكرر ومكثف في شمال سيناء وليس جنوبها؟ أو حتى في وسط سيناء عند سانت كاترين التي تُمارس فيها طقوس تبدو ضالة من وجهة نظر المتطرفين؟ الإجابة تبدأ بالبداية الصحيحة، وأولها التخلي عن حالة التهريج والفوضى في التحليل والمعلومات الخاطئة التي تلوث الحوار حول ما يحدث في سيناء؛ بل إن كم المعلومات الخاطئة التي تسكبها كثير من محطات التلفزيونات المصرية على رؤوس الناس تسهم في تضليل يَصُب في صالح جماعات الإرهاب وليس في صالح الدولة. وللأسف اعتمدت الدولة كوادر إعلامية تقوم بهذا الدور(جهل باسم الوطنية). تنقية أجواء الحديث هي البداية الصحيحة.
ورغم أهمية التعازي ورفع الروح المعنوية لمن يواجهون الإرهاب في سيناء، فإن الأهم هو الحديث بجدية تليق بالكوارث المتكررة في هذه المنطقة الصغيرة من شمال سيناء، والتي تحدث في شريط لا يزيد عن ساعة بالسيارة من بئر العبد إلى الشيخ زويد. وليت من يتصدى للحديث عن سيناء ينظر في الخريطة أولاً. فنحن لا نتحدث عن سيناء، بل عن مساحة لا تصل إلى 2 في المائة من أرض سيناء.
مثلث الإرهاب بشكل عام هو عبارة عن: 1- الجماعات الإرهابية. 2- الحاضنة الاجتماعية للجماعات الإرهابية. و3- ثقافة التكفير والتبرير. والحاضنة الاجتماعية للإرهاب في شمال سيناء هي أم الكوارث في المنطقة من بئر العبد حتى الشيخ زويد. ولكن لتوضيح الصورة الأشمل علينا أن نتحدث قليلاً عن سيناء في شكلها الأوسع كسياق، ثم عن تلك البقعة في شمال سيناء التي لا تصل إلى 2 في المائة من مساحة سيناء كما أسلفت، وذلك بغية الجدية في الحديث عن تلك الحوادث المتكررة.
ولا علاقة لذلك بالرئيس السيسي أو بمن قبله، إلا إذا تغيرت قواعد اللعبة في سيناء سياسياً وعسكرياً، مما يجعل استقرار سيناء ومعها مصر هماً إقليمياً ودولياً بقدر ما هو هم مصري.
بداية، معرفتي بسيناء ليست نظرية، معرفتي بسيناء ليست نتيجة سياحة في شرم الشيخ، أو غطس في رأس محمد، أو زيارة للعريش؛ بل كانت عملاً مع القوة المتعددة الجنسيات (MFO) المتمركزة في الجورة جنوب الشيخ زويد التي تمثل مسرح أحداث مواجهات الجيش المصري مع جماعات الإرهاب. وأقول الجيش هنا لأن الحدث في نطاق بئر العبد التي تقع ضمن المنطقة «A» في الملحق، أو البرتوكول العسكري لاتفاق «كامب ديفيد» للسلام، بين مصر وإسرائيل.
كانت ولا تزال مهمة القوة متعددة الجنسيات (MFO) هي التأكد من سلامة البروتوكول العسكري الخاص باتفاق «كامب ديفيد» بين مصر وإسرائيل، حيث تقسم مناطق المواجهة بين مصر وإسرائيل إلى أربعة قطاعات هي «أ»، و«ب»، و«ج»، و«د». المنطقة «د» داخل الأراضي الواقعة تحت السيطرة الإسرائيلية، وتمتد المنطقة «D» أو «د» من خان يونس شمالاً إلى إيلات جنوباً، بينما «أ»، و«ب»، و«ج» داخل سيناء. وسأعرض باختصار شديد للمناطق «أ»، و«ب»، و«ج»، في سيناء؛ لأنها أساسية في توضيح الصورة وحجم الإرهاب، وكذلك طبيعة انتشار القوات في تلك المساحات الشاسعة من أرض مصر.
أولا المنطقة «أ» أو «A»، وهي الممتدة من رأس محمد جنوباً حتى بئر العبد شمالاً (غرب العريش)، وحسب اتفاق «كامب ديفيد» يتمركز في تلك المنطقة 22 ألف جندي مصري، مسلحون تسليحاً ميدانياً كاملاً، باستثناء نوعيات محددة من الصواريخ التي يمكن أن تهدد أمن المدن الإسرائيلية الكبرى. ولن أدخل في التفاصيل الفنية هنا.
المنطقة «ب»، وهي المساحة الأكبر في المناطق الأربع، والممتدة من سانت كاترين جنوباً إلى العريش شمالاً، وتوجد بها قوات حرس الحدود المصرية، وهي قوة مسلحة تسليحاً خفيفاً. أما المنطقة «ج» فهي تمتد من شرم الشيخ جنوباً إلى رفح شمالاً، وهنا في شرم الشيخ تتلاصق المنطقتان «أ»، و«ج»، حيث تبدأ المنطقة «ب» عند سانت كاترين شمال شرم بقليل. أي هنا في تلك المنطقة يختلط عمل قوات البوليس المصرية مع عمل الجيش.
الهدف من هذا العرض السريع هو أولاً أن هناك مساحات شاسعة من سيناء، وخصوصاً الجنوب من رأس محمد حتى طابا - رغم ما بها مما يزعج تنظيم داعش - خالية تقريباً من أي عمليات إرهابية، وثانياً أن وجود الجيش والشرطة تقريباً نفسه، فلماذا يحدث الإرهاب في منطقة صغيرة في الشمال ولا يحدث في الجنوب مثلاً؟ هل هو الجوار؟ أم طبيعة السكان؟ أو علاقة أهل الشمال بالقاهرة وأهل الوادي، أو علاقتهم بمافيا التهريب من غزة إلى مصر؟ تلك الشبكة الجهنمية التي تتحالف فيها بعض عائلات رفح والعريش وبئر العبد بعناصر من «حماس» وعناصر فاسدة يفترض أن تكون في موقع الضد، لخلق اقتصاد يشبه اقتصادات المافيا، ولكننا في عالمنا العربي لا نستطيع حتى التفكير في هذا، فتلك محرمات لا تقربها.
جزء كبير من المشكلة في شمال سيناء ليس «داعش»، أو حتى جماعة بيت المقدس، بل أدعي أنه لا أساس لتلك التنظيمات هناك، ولكن ما نسمعه هي لافتات تعلق لتغطية وضع مافيوي أكثر تعقيداً من الإرهاب. نحن نتحدث في تلك البقعة عن جماعات الجريمة المنظمة، التي تنجح غالباً في التحالف مع العناصر الفاسدة، ليس في مصر فقط؛ بل في كل دول العالم، وتاريخ المافيا معروف للجميع تقريباً.
جزء من المشكلة هي الحاضنة الاجتماعية التي ترى أن الدولة المصرية سلمت أراضيها لرجال أعمال ليسوا من سيناء، ومنحهم نظام مبارك مساحات شاسعة بالكيلومترات وليست الأفدنة، وهؤلاء يعتمدون على أهل سيناء كحراس لهذه الأراضي وليسوا شركاء. وقصة البدو وعلاقتهم بالأرض، ووضع اليد، وحقوق الرعي، كلها أمور معروفة منذ القدم. فأن يأتي رجل أعمال أو اثنان أو ثلاثة ويسيطرون على شمال سيناء فهذا أمر غير مقبول، ولذلك يتحالف أهالي تلك المنطقة مع جماعات الإرهاب والبلطجة لإعلان تذمرهم من سياسات القاهرة، فإما دفع الإتاوة أو الإرهاب.
في الحادثة الأخيرة يدخل عنصر آخر، وهو نوع من النزاع العائلي بين مافيات التهريب، فحسب بعض التقارير بدأ القتل في ديوان إحدى العائلات، ومنها انتقل إلى المسجد، وهذه نقطة تحتاج الدراسة والتعمق. فإذا كان داعش، فلماذا في بئر العبد والشيخ زويد، وليست في طابا أو نويبع أو شرم في الجنوب؟ ولماذا ليست حتى في العوجة أو حتى رفح بعد العريش على الحدود مع غزة؟ الأسئلة كثيرة، وحتى نجيب عنها مطلوب فرز المعلومات وتنقيتها من التلوث الإعلامي المضلل باسم الوطنية.