تيريز رافائيل
TT

«بريكست»... عقبات ومخاوف

في الفترة التي سبقت استفتاء المملكة المتحدة على مغادرة الاتحاد الأوروبي (بريكست) في عام 2016، وبعدها مباشرة، تعرضت الحملة الداعية إلى «البقاء في الاتحاد الأوروبي» لوابل من السخرية بدعوى إثارتها التخويف. وقال السياسي المحافظ وأحد أشد المؤيدين لـ«بريكست» مايكل غوف، إن الناس يشعرون بالسأم والملل من الخبراء الذين يحذرون من سيناريوهات منذرة بأهوال نهاية العالم. ووُصف هؤلاء الذين يحذّرون من أن «بريسكت» قد يُكَبِّد الاقتصاد خسائر، بأنهم «متأوّهون»؛ وقورن وزير المالية فيليب هاموند بالشخصية الكرتونية (إيور) بسبب التزامه الحذر.
وكانت – بالتأكيد – بمثابة استراتيجية حملة كارثية، فقد أغفل التركيزُ على التكاليف الاقتصادية لـ«بريكست» المعاناةَ الاقتصادية الحقيقية جداً التي شعر بها العديد من البريطانيين بالفعل. وتغاضت عن حقيقة أن الكثير من البريطانيين كانوا مدفوعين بانعدام الثقة بالاتحاد الأوروبي، أو يلقون باللائمة على المهاجرين في عدم استقرار اقتصادهم. كانوا مستعدين لتقبُّل بعض التكاليف في سبيل التخلُّص من هذا العبء المتصور.
والآن، على الرغم من ذلك، يعود الخبراء للظهور مجدداً. قد تكون أساليبهم خرقاء، لكن المضمون العام لحججهم – بأن «بريكست» سيكون مكلفاً للغاية – يتطلع بشكل أكبر إلى الهدف.
وقد قلَّص مكتب مسؤولية الميزانية في بريطانيا، وهي هيئة رقابية عامة، توقعاتها لنمو الناتج المحلي الإجمالي إلى 1.5 في المائة هذا العام، و1.4 في المائة في عام 2018 من 2.2 في المائة، و2.1 في المائة في مارس (آذار) 2016، قبل إجراء التصويت مباشرة. كما نُقحت التوقعات المتعلقة بالإنتاجية والاستثمار في الأعمال التجارية تنقيحاً تنازلياً. ومع ذلك، فإن الأمور المقلقة لا تقتصر على التوقعات؛ لأنها غالباً ما تكون خاطئة على أي حال. وهذا ما يحدث الآن.
ووفقاً لمكتب الإحصاءات الوطنية، تتخلف المملكة المتحدة عن معظم البلدان المتقدمة الأخرى من حيث الاستثمار الخاص والعام على السواء. يتطلع مكتب الإحصاءات الوطنية إلى تكوين رأس المال الثابت الإجمالي، الذي يقيس الإنفاق على الأصول غير المالية من القطاعين الحكومي وغير الحكومي على السواء. وقد خلص إلى أن المملكة المتحدة لديها أدنى متوسط لمستوى الاستثمار غير الحكومي من بين مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي، وثاني أدنى متوسط لاستثمار القطاع الحكومي. وهذا من شأنه أن يشير إلى أن الأمر يستدعي وجود خطة رئيسية لبعض الاستثمار في جانب العرض، مثل: البنية التحتية، والتعليم، وما شابه ذلك.
ومع ذلك، مع انخفاض قيمة الجنيه الإسترليني، وارتفاع التضخم، والبلاد في خضم تنفيذ خطوة تاريخية بإبعاد نفسها عن الاتحاد الأوروبي، لا يكاد يكون هناك مجال للإنفاق.
وقدَّم هاموند أهم مجموعة من السياسات الاقتصادية للعام مؤخراً في خطابه عن الميزانية السنوية. ولا تحظى حكومته بشعبية، وتتسم بالانقسام لدرجة أنه بلا شك أراد القيام بدور بابا نويل، فقد أصدر بيانات للمجالات الرئيسية في الاقتصاد (من بينها: تخفيض أسعار بطاقات السكك الحديدية للشباب، وإعفاءات ضريبية على شراء أول منزل)، كما كانت هناك بعض الوعود بشأن بناء المنازل وتشييد الطرق، إلا أنه أخبر البريطانيين بشكل أساسي بأنه بحاجة إلى حمل مؤنه. وفي الواقع، قال لهم، إنه اقتطع بالفعل مبلغ 700 مليون جنيه إسترليني جانباً، من أجل تغطية تكاليف الخروج من الاتحاد الأوروبي، وكان يخصص ميزانية قدرها 3 مليارات جنيه إسترليني أخرى.
وتكمن المشكلة مع البيانات الاقتصادية في أنها قد ترسم في كثير من الأحيان صوراً مختلفة بشكل انتقائي. وكان هذا هو الحال بالتأكيد في أعقاب التصويت لصالح «بريكست» مباشرة، عندما اختلطت أمور أخرى، على الرغم من تراجع قيمة الجنيه الإسترليني، بما في ذلك الاقتصاد الاستهلاكي القوي بشكل ملحوظ.
وحاول هاموند وضع لمسة إيجابية على الأشياء، كما تتوقعون. ووجد بعض الجوانب المشرقة لتسليط الضوء عليها: الدين العام الذي سوف ينخفض لأول مرة منذ 17 عاماً، والعجز في الميزانية الذي سيبلغ 2.4 في المائة فقط هذا العام ويتجه نحو الانخفاض، والثقافة التقنية الحيوية (شركة تقنية ناشئة جديدة يُجرى تسجيلها كل دقيقة، حسب قوله، من دون ذكر كم عدد الشركات في الواقع التي تبقى وتنمو). ومع ذلك، لا يعد أي من تلك الأشياء علامة على أن الاقتصاد لا يتأثر بالخروج من الاتحاد الأوروبي. ويرجع انخفاض الديون، على سبيل المثال، إلى حد كبير إلى بيع الأسهم في مصرف «رويال بنك أوف اسكتلاند» الذي تديره الدولة وبعض التغيير في الحسابات.
ومن المرهق بشدة هذه الأيام المجادلة بأن الكأس نصف مملوءة. وتحلل دراسة بحثية أجراها موقع «وكس» مؤخراً تكاليف «بريكست» التي تحققت بالفعل. وهذه ليست توقعات يمكن طرحها جانباً. ولم يكن التدهور في قيمة الجنيه الإسترليني مجرد ظاهرة مؤقتة بعد الاستفتاء؛ إلا أنه استمر، ولا تزال قيمة العملة منخفضة بنحو 10 في المائة عما كانت عليه قبل إجراء الاستفتاء.
ولا غرابة في أن يحدث تضخم بعد ذلك؛ إذ تتزايد مؤشرات أسعار المستهلكين في المملكة المتحدة أمام الولايات المتحدة الأميركية ومنطقة اليورو، مع بلوغ التضخم 3 في المائة في أكتوبر (تشرين الأول)، (ولا يتعلق كل ذلك بـ«بريكست»، لكن يقول البعض إن التأثير كبير رغم ذلك). وبالفعل، ارتفعت النسبة أكثر في بعض مناطق البلاد التي صوتت بأقصى قدر من التأييد لصالح «بريكست»، بما في ذلك ويلز، على الرغم من أن آيرلندا الشمالية واسكتلندا – اللتين لا تزالان منطقتين – تأثرتا بشدة من التضخم؛ فهذه هي كل المناطق التي تعتمد بشكل كبير على ارتفاع مستوى المنتجات المستوردة، التي تعد الأكثر تضرراً من انخفاض قيمة الجنيه الإسترليني. ومع كل هذا، يُكَلِّف «بريكست» المستهلكَ في المملكة المتحدة بالفعل نحو 404 جنيهات إسترلينية (536 دولاراً أميركياً) سنوياً. ويتوقع تجار التجزئة أن يكون موسم الكريسماس صعباً.
ومع كل هذا، لم يحدث «بريكست» حتى الآن.
ولم يتضح بعد إذا ما كانت الصفقة التجارية مع أوروبا سوف تنجم عن المفاوضات المتوقفة، أو الانسحاب الشامل الذي يعني فرض حواجز تجارية جمركية وغير جمركية من شأنها أن تضر باقتصاد المملكة المتحدة. ومع ذلك، حتى قبل تسوية هذه المسائل الكبيرة، يدفع البريطانيون ثمناً باهظاً لتحديهم التحذيرات التي صدرت قبل التصويت على الاستفتاء الذي جرى ي عام 2016، ولم تعد مجرد تنبؤات. وهذه نقطة أولى في رصيد الخبراء.
- بالاتفاق مع «بلومبيرغ»