ليونيد بيرشيدسكي
TT

أميركا: صعوبة وضع قيود على حرية التعبير

أثار «البروفايل» الذي نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» لرجل يدعى توني هوفيتر من أوهايو، خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي، موجة من الغضب العارم. المثير أن هذا الرجل كان ليتعرض للسجن أو على الأقل لرقابة وثيقة من قبل الشرطة، لو أنه عاش في ألمانيا. داخل الولايات المتحدة، يتمتع هوفيتر بحرية الاستمرار في نشر صور تعج بشارة الصليب المعقوف المميزة للنازية عبر «فيسبوك». إلا أن الكاتب والمحررين الذين نشروا قصة صحافية عنه تلتزم نبرة محايدة، يواجهون غضباً عارماً بسبب «إضفائهم هالة طبيعية» على شخص متعاطف مع النازية.
الواضح أن رغبة قطاع من المجتمع الأميركي في إقرار قواعد حاكمة، واجهت خيبة أمل بانتخاب دونالد ترمب رئيساً للبلاد، وتعبر مشاعر الإحباط تلك عند هؤلاء عن نفسها في صورة حملات غاضبة عبر المواقع الاجتماعية ذاتها التي مكّنت أنصار ترمب من تنظيم أنفسهم ومؤيدي فكرة التفوق العنصري للبيض من التواصل مع آخرين يشاركونهم التوجهات ذاتها من مناطق أخرى من البلاد. إلا أنه بدلاً من تحقيق تغيير، ستنتهي الحال بهذا الغضب إلى تعميق الفجوات القائمة بالفعل.
يذكر أنه بعد عام 1945 اختارت ألمانيا تمرير قوانين تحظر الدعايات اليمينية الأشد تطرفاً والرموز «النازية». ولا تزال هذه القوانين سارية حتى اليوم. ويتولى مكتب الحماية الدستورية مراقبة الأفراد الذين يميلون نحو الاقتراب من هذه المحاذير. ولا يقتصر الأمر على الصليب المعقوف، وإنما تحظر المدارس في العادة ارتداء ملابس تنتمي لعلامات تجارية بعينها ترتبط بحركة النازية الجديدة. كما يعد خطاب الكراهية ضد مجموعة من الأفراد، بمن في ذلك أبناء عنصر بعينه، جريمة.
من جانبها، تؤيد الغالبية العظمى من الألمان هذه القوانين. أما من لا يستسيغون هذه القوانين، مثل أعضاء الحزب الوطني الديمقراطي بألمانيا المنتمي لتيار اليمين المتطرف، أو العناصر الأكثر راديكالية من «حزب البديل من أجل ألمانيا»، فيلتزمون الصمت حيالها، وإلا يواجهون مخاطر قانونية. كما سنّت دول أخرى ليست لديها تجربة تاريخية تكافئ التاريخ الألماني مع الحكم النازي، مثل السويد وسويسرا، قوانين تحظر الرموز النازية.
داخل الولايات المتحدة، يخضع الصليب المعقوف لحماية التعديل الأول. وقد أكدت المحكمة العليا عام 1977 حكمها بخصوص قضية الحزب الوطني الاشتراكي الأميركي ضد قرية سكوكي. كما أن «كلمات الشجار»، التي تمثل المكافئ الأميركي لخطاب الكراهية، ينبغي أن توجه لشخص بعينه كي تصبح موجبة للعقاب، رغم أن بعض العبارات العنصرية من الممكن أن تعدّها المحاكم سباً وقذفاً. وعلى امتداد عقود، اتسمت الولايات المتحدة بقوانين تخص حرية التعبير تتسم بقدر هائل من الليبرالية، وهذا تحديداً السبب وراء الدفاع المستميت من جانب «الاتحاد الأميركي للحريات المدنية» عن حق أنصار فكرة تفوق العنصر الأبيض في الحديث بحرية، في الوقت الذي يدين فيه ما يقولونه.
مما سبق يتضح أن المواطن الذي لا يخرق القانون يحظى بحماية المجتمع ككل، بغض النظر عن مدى تنافي تصرفاته مع الأخلاق. في الواقع، الكتابة عن هوفيتر ليست ما «يضفي عليه صبغة طبيعية»، وإنما عدم وجود تبعات قانونية مترتبة على رفعه رموزاً نازية. وقال هوفيتر في حديثه إلى «نيويورك تايمز» إن انتخاب ترمب عزز موقفه، والآن يواجه بتحد أي انتقادات يتعرض لها.
وقد تبدو جميع الحملات الغاضبة ضد «تطبيع» القومية البيضاء والتحرش الجنسي كأنها دعوة نحو إجراء تغيير تشريعي، لكن تظل الحقيقة أنه ليس ثمة حركة جادة في هذا الاتجاه داخل الكونغرس لتطبيق قوانين على غرار القوانين الألمانية ضد خطابات الكراهية أو الرموز النازية. وليست هناك مقترحات لإقرار ما يكافئ القانون الألماني الذي يلزم شبكات التواصل الاجتماعي بإزالة خطاب الكراهية؛ وإلا فالتعرض لغرامات باهظة.
من ناحيته، قال روني باتز، الباحث بإحدى المؤسسات غير الحكومية التابعة لجامعة لودفيغ ماكسيميليان في ميونيخ: «كشفت أبحاث أن الديناميكية التي تؤدي إلى الغضب ليست ذاتها التي تؤدي إلى التغيير، فعندما تتركز الأنظار على مثل هذه الأحداث والفضائح، فإنها تصبح مفيدة فقط عندما تكون ثمة عملية جارية تكافئ حجم الغضب المشتعل». ويعني باتز بذلك عملية تشريعية؛ وهو محق في قوله هذا.
يذكر أن «نيويورك تايمز» في ردها على حملة الانتقادات ضدها، أصدرت بياناً توضيحياً لم يشمل اعتذاراً واضحاً، وحذفت وصلة إلكترونية في الموضوع لموقع إلكتروني يبيع شارات للصليب المعقوف تلبس على اليد. إلا أن هذا الرد القائم على فكرة الحد من الخسائر بعيد تماماً عن التغيير الدائم الحقيقي الذي نطمح إليه.
ويستلزم ذلك التغيير المرور عبر عملية سياسية طبيعية: صياغة تشريع وتمريره عبر الكونغرس، ونيل توقيع الرئيس عليه أو دفعه للتغلب على «الفيتو» الرئاسي حال استخدامه.
بطبيعة الحال، بمقدور المحكمة العليا داخل الولايات المتحدة أيضاً إصدار تشريعات خارج هذه العملية، مثلما فعلت فيما يخص زواج المثليين. اللافت في الدول الأوروبية، أن الاستفتاءات الشعبية والأغلبية البرلمانية هي التي اتخذت القرار. بيد أنه داخل الولايات المتحدة، ليست ثمة أغلبية سياسية قادرة على فرض قيود على حرية التعبير، حتى وإن كان ذلك باسم محاربة النازية. كما أنه ليست ثمة أغلبية قادرة على تمرير تشريعات أشد صرامة لمكافحة التحرش الجنسي تنص، مثلاً، على أن المدعية الأنثى دوماً تقول الحق، أو أنه ليست ثمة أهمية لمدى الفترة الزمنية ما بين وقوع الاعتداء المزعوم والتقدم بالشكوى. وبالمثل، لا توجد أغلبية فاعلة ضد بيع الأسلحة، أو في مواجهة ترمب.
في الواقع، لست على ثقة من وجود أغلبية قادرة على تحقيق أي نمط من التغيير الراديكالي.
*بالاتفاق مع «بلومبيرغ»