لؤي عبد الإله
كاتب عراقي مقيم في لندن
TT

الدَّعْشَنة مصطلحاً جديداً!

في أغلب البلدان المتقدمة، حينما تتكرر ظاهرة اجتماعية سيئة، تلجأ السلطات للخبراء المختصين للمساعدة على إنهائها. فمثلاً برزت في بريطانيا خلال الثلاثين سنة الأخيرة حوادث العنف بين بعض سائقي السيارات، حيث وصل بعضها إلى حد القتل. وكان لزاماً البدء من الخطوة الأولى: تحليل الظاهرة سيكولوجياً، ثم إيجاد مفهوم يصفها، وكأن صياغة مفهوم كهذا أساسي في معالجة المشكلة، فأطلق على هذا العنف الذي يحاسب عليه القانون تعبير Road Rage.
وترجمته إلى العربية أو إلى أي لغة لا تنقل الحالة، ولكن تكرار المفهوم في الصحف ووسائل الإعلام جعله واضحاً لدى أغلب المواطنين. ترجمة هذا المصطلح هو «هيجان الطريق»... ولو سألت أي شخص بريطاني مات قبل ظهور هذا المفهوم وعاد إلى الحياة لفترة قصيرة عن معنى هذا المصطلح فلربما فضّل العودة إلى قبره على أن يعطيك تفسيراً غريباً له، فالمعنى الحقيقي هو مشاغبات سائقي السيارات في الطريق، ولكن باستخدام كلمتين تبدآن بحرف R جعله غامضا قليلا وملتبسا، ويعطي معنى يشير إلى حالة مرضية تصيب البعض أثناء قيادتهم في شوارع بريطانيا. وتعميم هذا المفهوم جعل الناس يدركون الحالة التي قد يقعون فيها، وما قد يترتب عليها من وسمهم بحالة مرضية (أو حوّلها المصطلح إلى حالة مرضية)، وما سيكون تأثيره على علاقته بأفراد أسرته وزملائه، أو في حالة تقديمه لعمل جديد، ولا أستبعد أن ذلك أدى من دون عقوبات إلى تقليل حالات العنف على الطرق بين سائقي السيارات، إذ لا أحد يحب أن يضاف إلى صحيفة أعماله إصابته ذات يوم بـ«هيجان الطريق».
الحالة نفسها مع «داعش» التي اقترب كنسها ككيان مادي من العراق بعد كل الفظائع التي ارتكبتها ضد المدنيين وضد النساء والأطفال. وسؤالي هو هل سيتم كنس الدَّعْشَنة مع كنس داعش في العراق؟ وما الذي جعل حركة داعش تستخدم كل وسائل العنف البشعة من قطع للرؤوس وتعذيب بطرق شديدة الوحشية لمن لا يتفقون مع معتقداتها أو سبي النساء غير المسلمات (وهذا بحد ذاته سبب لاضطهادهن لأنهن لا ينتمين إلى الديانة نفسها التي يعتقد أفراد داعش أنهم أخلص حراس بوابتها)، وبيعهن في الأسواق أو توزيعهن على المقاتلين جواري ومحظيات لهم؟
كل أساليب العنف هذه لها هدف واحد هو تخويف الآخر المختلف معهم، إلى الحد الذي يقبل بأن يؤمن بقناعاتهم، وأن يصبح واحداً منهم.
ولذلك فالدَّعْشَنة رغم أنه لا أصل لها في اللغة فرضت نفسها، وأصبح في إمكاننا أن نصوغ منها مصدراً لفعل رباعي هو دَعْشَنَ، وكما يعلم الجميع أن داعش هي حروف لاسم الدويلة المنهارة في العراق والشام. فالدَّعْشَنة غدت تعني فرض قناعات الشخص على الآخرين بالإكراه والتهديد كي يؤمنوا بها، وفي حالة رفضهم أو معارضتهم له، فإنه يملك الحق بتأديبهم بشتى الطرق بما فيها قطع رؤوسهم.
وإذا كان لهذا التنظيم الدموي الشرس من شيء يذكر له، فهو أنه أجبرنا على نحت كلمة جديدة في لغتنا التي لا يريد لها المتزمتون اللغويون ألا تقرب مطلقا، ولا تشتق لها كلمات جديدة. أجل أفادنا خروج هذا التنظيم لغوياً، وجعلنا نفتح عيوننا على لغتنا من جديد.
حال قبولنا بهذا المصطلح ومعناه وتلفّتنا حولنا سنكتشف ولرعبنا أن «داعش» والداعشيين ظلوا يشاركوننا في الطعام والسكن والأنشطة الأخرى منذ أكثر من نصف قرن. إنهم إخواننا وجيراننا وأقاربنا.
فمنذ أن أصبح الانتماء للوطن ثانوياً قياساً بالانتماء للحزب راح الكثيرون يمارسون تَدَعشُنَهم على الآخرين، كلما كان الآخرون في وضع أضعف من وضعهم، وربما هذا بفضل السلاح أو السلطة اللذين بأيديهم. ولعل أكبر دَعْشَنة جرت للمجتمع خلال فترة حكم حزب البعث في العراق كانت بفرض الانتماء القسري لقطاع واسع من المهنيين والطلاب إن لم يكن لكل المجتمع. وفي الفترة التي تلت سقوط النظام السابق برزت دَعشَنة أخطر حين أصبح الانتماء لهذه الطائفة تحديداً أو تلك يؤول إلى أن تكون مُدَعْشِنا أو مُدَعْشنا.
وهنا ربما يأتي السؤال الآخر: هل هناك فرق بين قطع رأس إنسان وبين إذلاله وامتهان كرامته أمام زوجته وأطفاله.
ألا تبلغ كراهية الشخص لنفسه بقبوله للإهانة درجة تجعله يتمنى لو قطع المُتَدَعْشِن رأسه من دون أن يمس كرامته. فالشخص الذي يمارس فعل الإذلال هو داعشي من الطراز الأول؛ فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي على استعداد أن يخسر حياته مقابل الاحتفاظ بكرامته. فحقوق الإنسان لم تظهر إلاّ بسبب الامتهان الذي مارسته جماعة ضد جماعة، وبسبب المقاومة التي دفع الكثير من البشر ثمنا للحصول عليها.
إذن ما أريد الوصول إليه هو أن التخلص من داعش في العراق أو في بلدان أخرى لا يعني التخلص من الدَعشَنة (تحويل المجتمع إلى دواعش) أو التدعشُن (ويعني التحول إلى شخص داعشي بتأثير الخوف أو الإقناع) أو المتدَعْشِن، وهو الشخص ذو التصرف الداعشي حتى لو لم يَقُم بقطع الرؤوس، ويكتفي بتمزيق كرامة وقيمة الآخرين المختلفين عنه، سواء مذهبيا أو فكريا أو دينيا، والمُدَعْشن عليه وهو ضحية «داعش» ومشتقاتها.
*كاتب عراقي