بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

القدس والسفارة... لا لليأس

معلوم لكل ذي عقل، أن العوم عكس تيار سباحة العَوام مجازفة خطرة، بل لعلها حماقة ربما انتهت إلى أكثر من مجرد البلل، فأدت للغرق. يصحّ هذا حيثما اختار المرء الجهر برأي معاكس للسائد من آراء يتشكل من مجملها جوهر الرأي العام المُرجَّح بين خواص الناس وعوامهم. أكتب هذه الكلمات مساء الاثنين، بعد غوص استغرق ساعات وسط طوفان صراخ الكثيرين على امتداد العالمين العربي والإسلامي، محذرين أميركا من مغبة أن يغامر الرئيس دونالد ترمب بإعلان قرار نقل سفارة واشنطن إلى القدس اليوم.
بدءاً، يجب القول إن التحذير من نتائج سلبية محتملة لإجراء أميركي كهذا، أمر مطلوب. أكثر من ذلك، جدير بالعواصم العربية والإسلامية أن تذكّر الإدارة الأميركية الحالية أنها بنقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس، تقفز عن عُرفٍ اتبعته كل الحكومات الأميركية منذ إنشاء إسرائيل. يجوز ترجيح الافتراض أن هذا التذكير جرى بالفعل. ثم، يمكن المضي أبعد إلى القول إن كل ما سوف ينتج عن اتخاذ قرار نقل سفارة واشنطن للقدس - سواء أُعْلِن اليوم، أو لم يُعلن فأُجِل - من مظاهر غضب عربي واحتجاج إسلامي، أمر مفهوم ومبرر، ليس فقط بتأثير فعل الصدمة، وإنما أيضاً لأن القرار، خصوصاً إذا دخل حيّز التنفيذ الفعلي، سيمنح إسرائيل صك اعتراف أميركي يشرْعِن احتلالها للقدس الشرقية، وفي هكذا تصرف قفز عن كل قرارات الشرعية الدولية منذ ما بعد حرب 1967. كل ما سبق مفهوم، لكنه لا يعني التسليم بكل ما ثار من صراخ خلال الأيام القليلة الماضية.
في مقدم ما سوف أخاطر بالعوم مع التيار المعاكس له، هو نبرة يأس اتسمت بها معظم ردود الفعل الفلسطينية المُسبقة تجاه احتمال إعلان قرار نقل السفارة. المقصود باليأس هنا، على وجه التحديد، أن ينحو الكلام منحى التسليم بأن نقل مبنى سفارة واشنطن للقدس، أو حتى اعتراف الرئيس ترمب بالقدس «عاصمة موّحدة لدولة إسرائيل»، هو دفن نهائي لحقوق الشعب الفلسطيني. ربما يفيد هنا التوقف عند معاني كلمات تتداولها الألسنة، والأقلام، على الطالع والنازل، كما يُقال. مثلاً، ماذا يعني تعبير «تصفية قضية فلسطين»، الذي يتردد كلما لاح في الأفق احتمال سلام ما بين إسرائيل والفلسطينيين، وهو تردد أكثر منذ أعطيت خطة ترمب المنتظرة صفة «صفقة القرن»، التي أوكل أمر وضعها موضع التنفيذ لصهر الرئيس الأميركي ومستشاره، جاريد كوشنر. تصفية أي أمر تعني، وفق المُتعارف عليه، ألا تقوم له قائمة أبداً. مُحال أن يحصل هكذا مآل للشعب الفلسطيني، تاريخاً وتراثاً وإرثاً. هذه العوامل الثلاثة تشكل أساس استمرار وجود الفلسطينيين فوق أرضهم، بمن فيهم المشتتون في أصقاع العالم كله. وطالما هناك نَفس فلسطيني يتدفق بين أنفاس بشر، هناك حقوق فلسطينية، وهناك قضية للفلسطينيين، بغض النظر عمن هو سيّد القرار الأممي، وأياً كانت القوة العسكرية الأعظم بين الأمم وعلى وجه الأرض. لِمَ، إذنْ، كل ذلك الهلع الفلسطيني، تحديداً؟ أليس بقدر عمق الإيمان بحق الإنسان في أرض أجداد أجداده الأولين، تطمئن قلوب أهل ذلك الحق لحقيقة أنه مستمر ما استمر الوجود؟ بلى.
أمر سفارة واشنطن، أو غيرها، لدى إسرائيل، يمكن تلخيصه في أن نقل علم دولة ما من فوق مبنى في تل أبيب إلى آخر في القدس، لن يطوي ملف صراع عمَّر طوال قرون. ثم، إن تاريخ «أورشليم» يقول إنها تراجيديا ظلت حروبها بين قبائل العبرانيين أنفسهم تعبر من حربٍ لغيرها، ولم تزل طائفة «ناطوري كارتا» اليهودية ترفض الاعتراف بدولة إسرائيل الحالية. أيضع خاتمة لهذا كله قرار نقل سفارة؟ كلا.
جدير بعقول الفلسطينيين السياسية أن تتحلى بذكاء أكثر، وربما بالكثير من دهاء السياسة ذاتها. بدل صراخ لن يغيّر في الأمر أي شيء، يمكن مواجهة التحدي بهدوء، الأفضل اقتراح حلول ووضع بدائل. مثلاً، يمكن دعوة واشنطن لافتتاح سفارة في رام الله، وقنصلية بقطاع غزة، لتأكيد رغبتها في استمرار التعامل مع الفلسطينيين. هل جازفت بالعوم عكس التيار مسافة أبعد مما ينبغي؟ ربما، لكن قد تشفع لي، وآخرين غيري ممن يشاركونني ما يبدو رأي أقلية، حقيقة أن جِذر قُدس فلسطين سوف يظل يستوطن القلب، مهما تكاثر نعيق غربان المستوطنين فيها، ومن حولها.