إميل أمين
كاتب مصري
TT

أميركا... السلام عبر القوة

يبدو أن العام الحالي لا يريد أن ينصرم قبل أن تبلور الولايات المتحدة رؤيتها للعالم عبر استراتيجيتها الجديدة للأمن القومي التي أقر بنودها مؤخراً الرئيس الأميركي دونالد ترمب.
هل من أهمية لإلقاء الضوء على تلك البنود التي تشرح رؤية الرئيس للأمن القومي، وتحدد التوجهات التي سوف تعمل طبقاً لها كافة الوكالات والدوائر الحكومية؟
ربما يتوجب علينا الإشارة إلى أن الأمن القومي الأميركي، وحتى الساعة، لا يزال سائراً على درب رؤية القرن الأميركي، وقد تم تصميم المشروع الأكبر للقرن الأميركي الجديد في ربيع عام 1997، وكان هدف المشروع هو السلام الأميركي Pax Americana، ذلك المشروع الذي كان ولا يزال يهدف إلى ضم باقي العالم طوعاً أو إخضاعهم كرهاً، وكان الشيء المحافظ في هذا المشروع هو الإيمان بالدور المميز الذي تلعبه أميركا، أي سيطرة فكرة الاستثنائية الأميركية الخيرة والحتمية التاريخية لقيادتها للعالم.
لم تتغير رؤية أميركا للعالم كثيراً منذ ذلك الوقت، إلا أن الجديد والمثير في خطوط وخيوط الاستراتيجية الأميركية الجديدة التي ستعلن الأسابيع القادمة، هو أن طلب الزعامة والهيمنة سوف يبقى مقترناً بإجراءات الكشف المبكر والوقاية مما يمكن أن نسميه «المقاومة الواسعة للشغب»... هل يعني ذلك أن زمن دونالد ترمب سوف يعود بالعالم من جديد إلى طروحات «الحروب الاستباقية»؟
المتابع للشأن الأميركي بصورة عميقة يفهم معنى ومبنى القول إن البنتاغون ووكالة الأمن القومي وبقية المؤسسات الاستخباراتية الأميركية هم من قاموا على تحليل القضايا السياسية الرئيسية، وتالياً قدموا معلومات إلى مجلس الأمن القومي الأميركي لترتيب أوراق اللعب على طاولة العالم.
تظهر لنا تسريبات صحيفة «وول ستريت جورنال»، أن في الاستراتيجية القادمة مساحات واسعة للتصادم مع ثلاث قوى عالمية، في المقدمة منها كوريا الشمالية، وهذه أقرب ميدان للمواجهة العسكرية في حاضرات أيامنا، إلى الدرجة التي بدأت معها واشنطن نشر صواريخها من طراز «ثاد» حول الأجواء الأميركية خوفاً من جنون كيم جونغ أون، وبعدها يسعى راسمو خرائط الاستراتيجية لتقليص نفوذ الصين الذي يتوسع يوماً تلو الآخر، ويسعى إلى القطبية العالمية بخطى حثيثة، وفي لحظات الاحتدام يحرك قواته المسلحة منذراً ومحذراً، كما حدث الأيام الماضية رداً على المناورات الأميركية مع كوريا الجنوبية، أما الميدان الثالث والتقليدي فيتصل بروسيا، وما يعتبره الأميركيون ضرباً من ضروب المزاعم وجهود الدعاية لها في الغرب.
لا تهمل الاستراتيجية التي نحن بصددها الإرهاب ومقاومته، ولا سيما أن التعويل على مسألة مكافحة العنف تبقى مسرباً جيداً لتحقيق الكثير من الأهداف التي لا يمكن إدراكها في ظل الأجواء السياسية الطبيعية حول العالم.
لم يوارِ أو يدارِ الجنرال هربرت ماكماستر، مستشار الأمن القومي الأميركي، في كلمته التي ألقاها أمام منتدى الأمن بمكتبة رونالد ريغان بولاية كاليفورنيا، الطريق التي ستسلكها واشنطن لتحقيق الاستراتيجية الجديدة، ولخصها في عبارة واحدة «الحفاظ على السلام عبر استخدام القوة»، وهو شعار براق، لكنه يحمل في طياته قدراً كبيراً من العدوانية، ويفتح المجال للصراعات المسلحة المحلية، مروراً بالإقليمية، وصولاً إلى الكونية، مع الأخذ في عين الاعتبار سؤالاً جوهرياً: «من الذي يضفي صبغة أو مشروعية السلام من عدمه على قضايا العالم؟ وهل واشنطن وحدها هي المخولة بهذا الأمر دون أن يكون لبقية العالم دور ما؟
استقراء المدركات التي أشار إليها الجنرال ماكماستر تؤكد، وبما لا يدع مجالاً للشك، أن حكم الجنرالات ماضٍ قدماً في الولايات المتحدة، وأن رسم معالم التفوق الأميركي سائر على درب القوة العسكرية، وأن الرئيس ترمب عينه منوط به حراسة تلك النقاط الاستراتيجية للبلاد، وفي مقدمتها حماية الشعب الأميركي، وتحقيق المزيد من الرخاء والنمو الاقتصادي في الداخل، حتى لو كان ذلك عبر الوقوف ضد الصين – والحديث مباشرة لماكماستر – وروسيا وكوريا الشمالية وإيران، وأيضاً الحرب على الإرهاب في الشرق الأوسط.
والشاهد، أنه لا أحد ينكر على الولايات المتحدة حقها في الحفاظ على منجزاتها الإمبراطورية، أو صون شعبها وتوسيع قواعدها الصناعية، إلى آخر المفاهيم التي جعلت منها قوى كبرى، إنما يبقى السؤال: من يبلور لأميركا «مدونة قواعد السلوك» Cod of ethics قبل أن تنجرف وراء غرور القوة الإمبراطوري المعهود؟
شيء ما في الاستراتيجية الجديدة تبدو معه أميركا وكأن روحها منقسمة في داخلها، منقسمة بين معسكرين؛ جماعة الانعزاليين الذين قطعوا بأنه حان الوقت للاهتمام بالداخل الأميركي والتوقف عن السير في طريق الفتوحات الخارجية، ويمكن بدرجة أو أخرى اعتبار الرئيس ترمب أحد حاملي رايات هذا التوجه، ما اتضح خلال حملته الانتخابية الرئاسية من خلال شعار «أميركا أولاً»، والجناح المحافظ العازم على إعادة «مفهوم القوة» إلى دائرة التعاطي الأميركي حول العالم حتى وإن تذرع بالحفاظ على السلام العالمي، وصون مصالح أميركا حول الكرة الأرضية.
هل هي معركة صراع دائرة في واشنطن هذه الأيام؟
أغلب الظن أنها معركة كبيرة وخطيرة، وينبغي على العالم متابعة فصولها خوفاً من الأسوأ الذي لم يأتِ بعد.