أمل عبد العزيز الهزاني
أستاذة في جامعة الملك سعود في السعودية. باحثة في علوم الوراثة الجزيئية. خبيرة في الإدارة الأكاديمية. كاتبة سياسية منذ عام 2009. كاتبة مقال أسبوعي في «الشرق الأوسط».
TT

القدس... التاريخ والحاضر

غضبة كبيرة سادت نفوس العرب والمسلمين في كل أنحاء العالم، بعد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب نيته نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس.. وكان أمراً يدعو إلى التساؤل الممزوج بالغضب ويوحي بأنه واقع لا محالة. وأسوأ أنواع الغضب هو الممزوج باليأس والضعف والخوف، وكلما زادت وتيرة هذه المشاعر السلبية زاد حجم الغضب، حتى يصل إلى ذلك النوع الأعمى الذي قد لا يميز بين عدو وصديق.
نحن نعيش حالة من الضيق والكدر والاستنكار، كي يُنتزع قلب القضية الفلسطينية بمجرد توقيع.
ومع أجواء التوتر، وانفعالات الشارع العربي، والغضب الذي قد يفقد بوصلته، عدت إلى التاريخ، الذي عايشه البعض، أو سمعنا شهادات لهم قبل أن يرحلوا عنا، أو تم توثيقه.
كانت القدس قبل حرب النكسة في عام 1967 تحت الحماية الأردنية، وجزء منها منطقة منزوعة السلاح بإشراف أممي. لكن خلال تلك الحرب التي امتلأت بالكذب والخداع والغرور، ظن العاهل الأردني الراحل الملك حسين أن الأوضاع في مصر جيدة بحسب ما أكده له الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وكان حافظ الأسد قد وعده بالإمدادات. فبادرت القوات الأردنية بضرب تل أبيب والمناطق المنزوعة السلاح بثقة تامة. أما الحقيقة، فإن عبد الناصر لم يكن يعلم بعد أن أسطوله الجوي دمر بالكامل وهو على المدرج، وحافظ الأسد تخلى عن وعده. لقد كانت فرصة من ذهب لوزير الدفاع الإسرائيلي الجديد موشى ديان الذي أعطى أولوية للقدس بعد أن انتهى من سيناء فحاصرها، وكان يوم السابع من يونيو (حزيران) 1967 هو يوم استيلاء إسرائيل على القدس بالكامل، حتى اليوم.
عدت كذلك، وأدعوكم للعودة للاستماع إلى كلمة الرئيس الراحل محمد أنور السادات في الكنيست الإسرائيلي عام 1977، أي بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) بأربعة أعوام، و11 عاماً بعد حرب النكسة عام 1967 التي خسر فيها العرب القدس، والجولان، وسيناء. هذه الكلمة التي ألقاها السادات في الكنيست، حول الحق العربي، ودعوته إلى سلام عادل ودائم، تستحق أن تدرّس لطلبة الجامعات في فن الخطابة، وعلوم السياسة، واللغة، والدبلوماسية. فقد حملت أول مشروع سلام بين العرب وإسرائيل، تضمن العودة إلى حدود 67.
السادات دخل الكنيست بشجاعة، وطرح رؤيته بجسارة، وكانت لا تزال روح انتصارات أكتوبر تحوم حوله وتمده بالقوة والاعتزاز. لم يعبأ بالشعارات التي نددت بإعلانه الذهاب إلى الكنيست، لأنه كان دائماً ما يكرر: «سأذهب حتى آخر العالم من أجل السلام الدائم العادل». كل العالم العربي تقريباً كان ضده، يخوّنونه، ويرمونه بأبشع الصفات.. طعنوه في عروبته وقوميته، لكن وحده وقف هناك بطلاً، يلقي خطبة عادلة دائمة كما هو السلام في نظره. استمع إليه مؤسسو إسرائيل وعتاتها، ومنهم موشى ديان وغولدا مائير، اللذان أنصتا بكل جوارحهما إلى الرجل العربي الجريء الذي لم يتردد في أن يدخل بيتهم ويقول أمامهم: «ليس من المقبول أن يفكر أحد في الوضع الخاص لمدينة القدس في إطار الضم أو التوسع، وإنما يجب أن تكون مدينة حرة مفتوحة لجميع المؤمنين، وأهم من كل هذا فإن تلك المدينة يجب ألا تفصل عن هؤلاء الذين اختاروها مقراً ومقاماً لعدة قرون. وبدلاً من إحياء أحقاد الحروب الصليبية فإننا يجب أن نحيى روح عمر بن الخطاب وصلاح الدين... أي روح التسامح واحترام الحقوق».
ثم جاءت المبادرة العربية التي قدمتها السعودية للجامعة العربية وتم التوافق عليها في مارس (آذار) 2002، وكانت أكثر تفصيلاً وشمولية من مشروع السادات، والمفارقة، أن من رفض مشروع السادات هم أنفسهم من رفض المبادرة العربية، أعداء السلام المنتفعون من الحروب.
المغزى من هذه المراجعة التاريخية، هو محاولة المقارنة بين التعبير السلوكي ورد الفعل العربي الرسمي والشعبي حول كل ما يصدر من قرارات حول القضية الفلسطينية. من ناحية رد الفعل الرسمي فأعتقد أن جامعة الدول العربية فعلت صواباً حينما قدمت مطلب إعلان القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين بعد قرار الرئيس ترمب. لأن من حسن معالجة الأمور تغيير موقف الدفاع إلى الهجوم، والمطالبة بالمزيد.
أما على المستوى الشعبي، فالأمر لم يتغير كثيراً منذ النكسة. وأعتقد من وجهة نظر متخصصة، أن تخلف مستوى التعليم والبعد عن الثقافة العلمية في التفكير، المتكئة على الثوابت والبراهين والنظرة الموضوعية، هي ما جعلت الوعي عند الشارع العربي، خاصة الفلسطيني، رخواً، سهل التلاعب به، وربما تشكيله.
نرى ذلك واضحاً في حملة ممنهجة مدفوعة الثمن لمتظاهرين تقدموا ساحات الاحتجاج، يساوون بين إسرائيل والولايات المتحدة من جهة، ودول عربية لها تاريخ طويل في خدمة القضية الفلسطينية من جهة أخرى، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية.
ولا يمكن الادعاء بأن هذا أمر مستغرب أو جديد، لكنه أخذ منحى موغلاً في انعدام المروءة والجحود لم يسبق له مثيل، خاصة مع تغاضي السلطات الفلسطينية عنهم. والسبب في ذلك بلا شك يعود إلى تداعيات أزمات المنطقة، أهمها الأزمة مع قطر، والحرب ضد الوجود الإيراني وأتباعه من الشيعة والسنة وأبرزهم حركة حماس الإخوانية.
أن تتحول القضية الفلسطينية في هذا الظرف الحساس الذي أوجعنا، إلى سلعة للمتاجرة بها وأهلها، فهذا أمر يفرح به الأعداء ويتكدر منه الأصدقاء.
كل هجوم على طرف يقدم المصلحة العربية وخاصة الفلسطينية، منذ السادات وحتى اليوم، أصبح دلالة على مستوى وعي الإنسان العربي واحترامه لأدب الاختلاف. الإسرائيليون لم يكونوا سعداء بوقوف السادات بكل شجاعة في الكنيست ليقول لهم إننا نرفض احتلالكم، لكنهم كانوا سعداء برجل مثل حافظ الأسد تخلى عن القدس وسلّم الجولان، أو مثل عبد الناصر الذي لم يكن يعلم حقيقة ما جرى لقواته المسلحة. واليوم، يتمنى نتنياهو وفريقه المتطرف أن يكثر الله من أمثال بشار الأسد، فهو حامٍ لإسرائيل من جهة الجولان، كما يتمنون شعباً عربياً تتلاعب به أموال نظام قطر ووعود نظام الخميني وأحلام جماعة الإخوان المسلمين. شعوب تحمل عقلاً من صلصال، ضعيفة البنية العلمية، قابلة للسحب والطرق.