د. محمد عبد المطلب الهوني
كاتب وباحث ليبي ومؤسس مجموعة العقلانيين العرب
TT

السعودية... ربيع حقيقي

في الخمسينات والستينات من القرن المنصرم شهدت منطقتنا العربية أحداثاً سياسية مختلفة. فكان بعض الشعوب قد حصل على استقلاله والبعض الآخر كان يناضل من أجله. وكانت كلمة ثورة لها مفعول سحري في عقولنا ووجداننا، وكنّا نطلق على كفاح الشعب الجزائري من أجل الاستقلال «ثورة»، كما أطلقنا على الانقلابات العسكريّة التي أسقطت أنظمة وطنيّة نفس الصفة. وكنّا نعتبر أنّ الثورة بكلّ حمولتها الرومانسيّة غايةً في حدّ ذاتها وليست وسيلة لتحقيق هدف ما.
ثمّ حدث أن استقلّ أغلب الشعوب المستعمرة، كما اكتسبت الأنظمة الانقلابيّة تقنية البقاء في السلطة، وخبت جذوة التمرد، لاكتشاف الجماهير ونخبها النتائج العبثيّة للقلاقل الاجتماعيّة التي لم تأتِ بتغيرات اقتصاديّة واجتماعيّة لمصلحتها، بل حدث عكس ما رُفع من شعارات، فتردّت الأوضاع المعيشيّة وانتشر الفساد والمحسوبيّة، وسيطرت الأنظمة الثوريّة على المناشط الاقتصاديّة بما في ذلك التجارة، وحلّ الموظفون محلّ التجّار والمصنعين والمضاربين والمقاولين تحت شعار الاشتراكيّة والعدالة الاجتماعيّة.
ربّما كان نجاحها الوحيد يتمثّل في التقليل من عدد وفيات الأطفال بالتعاون مع المنظمات الدولية، والقضاء على الأمراض المتوطنة مما جعل هذه الكتل البشريّة تتزايد أعدادها على شكل متوالية هندسيّة، حتّى أضحت قنابل ديموغرافيّة قادرة على تفجير أي محاولة للتنمية، وأصبحت حياتنا عشوائيّة، من السكن والتعليم والوظائف والاقتصاد.
ثمّ جاءت أحداث ما أُطلق عليه الربيع العربي الّذي أنتج حروباً أهليّة وفظائع إنسانيّة ما زالت أحداثها ومآسيها دائرة حتى اليوم، ولا يعتقد أنّها ستفُضي إلى شيء إيجابيّ، بل بالعكس ربّما سنصل إلى انهيار الدول وتشظي المجتمعات من محطتها الأخيرة، كلّ ذلك حدث تحت مسمى الثورة التي تهدف حسب مقولات فاعليها ومنظّريها إلى غد أفضل وإلى رفاهيّة طال انتظارها.
هنا لا بدّ من الوقوف أمام هذه الكلمة السحريّة، أي «الثورة» التي كانت حلماً جميلاً، واليوم أصبحت كابوساً ثقيلاً عند أغلب الناس في منطقتنا. كانت هذه الكلمة اللاتينية (Revolution) تعني في القديم وصف حركة الأفلاك البطيئة والمنتظمة والدورية وعودتها إلى الحالة الأولى، ولم تأخذ معناها السياسي إلا في القرن السابع عشر، بعد أحداث ما بات يطلق عليها الثورة الإنجليزية.
وحتى بهذا المعنى السياسي كان يُقصد بها إرجاع الحالة الاجتماعيّة والاقتصادية والاجتماعيّة إلى ما كانت عليه في السابق، وتصحيح مسار الأحداث مما اعتراها من تشوّهات. ولذلك كان من نتائجها إرجاع الحكم الملكي في بريطانيا.
ولكن المعنى الأكثر حداثة الّذي اكتسبه هذا المصطلح تمّ في وأخر القرن الثامن عشر، عندما قامت الانتفاضة الفرنسيّة التي كان زعماؤها متأثرين بالأفكار التنويريّة، فأعلنوا صراحة عن أهدافهم في إسقاط النظام القديم وتدشين نظام جديد على كل الأصعدة، ومن هنا أخذت كلمة ثورة معناها الحديث في الاجتثاث الجذري للقديم والقطيعة الكاملة مع نظام سابق، واستنبات نظام آخر محلّه، يتناقض معه في جميع جوانب الحياة، أمّا ما أطلق الثورة الأميركيّة التي سبقتها فلم تكن ثورة، بل هي أول حرب استقلال عن الاستعمار في التاريخ.
لا أريد من هذه المقالة أن تكون بحثاً في مفهوم الثورة، رغم افتقار المكتبة العربيّة إلى مثل هذه البحوث. وكلّ ما أردته هو مقاربة مفهوم الثورة للأحداث التي وقعت في بعض البلدان العربيّة سنة 2011.
إنّ الثورة كمعول هدم لصرح اجتماعي وسياسي واقتصادي قائم، هو عمل محفوف بالمخاطر في كلّ المجتمعات، ولكنّه عمل تراجيدي مدمر في تلك المجتمعات التي تصل فيها الكتل السكانيّة الموجودة على إقليم محدد إلى «شعب» بالمفهوم السياسي الحديث للكلمة. وهذا حال أكثر من يطلق عليهم الشعوب العربيّة.
هذه الكتل البشريّة غير المتجانسة التي بقيت كل تاريخها في شرنقة الطائفيّة والقبليّة والجهويّة، لم تشكل شعباً بالمعنى السياسي الضيّق لهذه الكلمة.
فهي جزر معزولة داخل مجتمع موحّد بفعل سطوة السلطة وجبروتها فقط. وهي متأهبة على الدوام للاقتتال والتنازع بمجرّد اضمحلال هذه السلطة أو ضعفها.
لذلك فهي مجتمعات معرّضة للتفسّخ والانقسام، إذا حدث تمرّد شعبي واسع النطاق أو ما يسمّى الثورة. إنّ المعطى الجغرافي الذي توجد عليه هذه الكتل البشريّة غير كافٍ لإطلاق صفة الشعب عليها.
هذه المجتمعات تتساكن تحت سلطة مركزيّة قويّة، وتتّخذ هذه المساكنة مظهرين من مظاهر التعايش.
تعايش المهادنة، ويقوم على تجميد الصراعات بين هذه المكونات، إمّا بسبب عدوّ خارجي يستهدف وجودها، وإما بسبب وفرة في الأرزاق التي تكفي لسد حاجة الجميع دون اقتتال، غير أنّها تبقى محافظةً على ثقافتها الشفويّة التي تتناقلها جيلاً بعد جيل تؤرخ لصراعاتها السابقة وتحالفاتها القديمة، وهي على استعداد دائم لإطلاق العنان لصراعات دامية تستدعي فيها تلك الثقافة الهويّة المكبوتة.
تعايش التسامح، ويعني أنّ قبيلة أو طائفة قويّة الشوكة استطاعت أن تكون جزءاً أساسياً من السلطة، فتشيع فكرة التسامح الاستعلائيّة، أي السماح للقبائل أو الطوائف الأخرى بالعيش في سلام واقتسام المنافع وتوزيع المصالح، حسب أجندة عرفيّة تحافظ على السلم الأهلي إلى حين، وكذلك خفض للهجة الاحتكار الشرطية في مجال الاعتقاد.
في كلّ هذه الحالات تبقى هذه الكتل البشريّة متوجّسة بعضها من بعض، تفتقر إلى فكرة الخير العام هدفاً اجتماعياً وتاريخاً جامعاً يشكّل الوجدان الوطني. وتبقى نظرة هذه المجموعات إلى الدولة إمّا نظرة كراهية إذا كانت جابية للضرائب والمكوس، وإمّا نظرة إحساس بالغبن إذا كانت تسيطر على الغنيمة وتحتكر توزيعها. ومن ثمّ لا يمكن وصف البشر الّذين يقبعون تحت سلطتها بالشعب. لأنّ ذلك لن يتحقق إلا بالتعايش المبنيّ على المساواة والانصهار في بوتقة المواطنة.
غير أنّ الوصول إلى هذه المرتبة الحضاريّة لا يمكن إدراكه من خلال التمرّد في هذه المجتمعات، أي لا يمكن إحداث ذلك من خلال تلك الكتل البشريّة التي تسود فيها ثقافة القبيلة والطائفة والجهويّة، وإنّما تكون بإصلاح بنيوي واسع النطاق وطويل الأمد تقوم به السلطة من الأعلى بالتحالف مع «الأنتلجنسيا» المتنورة في هذه المجتمعات.
وأساس الأسس في هذه الإصلاحات هو رفض الدولة اعتناق أي آيديولوجية حتى لا تسجن نفسها في قفص الأفكار والرؤى المسبقة فتكون عائقاً في مسيرتها الإصلاحيّة، كما حدث في الجمهوريات الانقلابيّة.
إنّ العمود الفقري للإصلاح هو التنمية المادية والبشريّة المستدامة، وإشاعة مفهوم الأنسنة في هذه المجتمعات وإعادة النظر جذرياً في المناهج التربوية والتعليميّة، والتي يجب أن تهدف إلى خلق الإنسان الفرد الّذي يقطع حبله السري نهائياً مع البنى القديمة المتوارثة من العصور الوسطى كالطائفة والقبيلة، والتي ينفي وجودها قيام الدولة الوطنيّة الحديثة، كما أنّ قيام هذه الدولة سوف ينسف وجودها بالكامل.
والسؤال الّذي يطل برأسه ويحتاج إلى إجابة هو: كيف لهذه الكتل البشريّة أو جزء منها أن تتوحّد لإسقاط النظام؟
ونجيب بأنّ عجز السلطة المركزيّة عن تلبية الاستحقاقات الاقتصادية والثقافيّة والسياسيّة يحوّلها إلى إكراهات صارخة تتطلب إصلاحات بنيويّة، فإذا أُهملت تستحيل إلى غضب لا يلبث أن ينفجر في شكل ثورة أو تمرّد إذا توفّرت لها الظروف الموضوعيّة في لحظة تاريخيّة مّا. وهذا ما حدث في تونس وليبيا وسوريا واليمن.
والملاحَظ أنّ كلّ هذه الدول التي قامت فيها الثورات هي دول ذات أنظمة جمهوريّة تعتمد في حكمها على القوّة الغاشمة لضبط رعاياها، كما استبدلت بفكرة التنمية المستدامة فكرة ديمومة منظومة الفساد. هذه الخلطة القاتلة هي التي كوّنت وقود التمرد.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى كانت تلك الأنظمة يسيطر عليها طوال حكمها الإحساس بعدم الشرعيّة، لأنّ انقلابها على الشرعيّة شكّل لديها عقدة الخطيئة الأولى التي لم تستطع أن تشفى منها طوال كلّ هذه العقود، فحاولت أن تقيم نظام الحزب الواحد اعتقاداً منها أنّ هذه الصيغة قادرة على صهر القبائل والطوائف والإثنيات والجهويات في نسيج اجتماعي متناغم ولكنها أثبتت بعد عقود أنّها وصفة سحريّة فاشلة، لأنّها نتيجة قرارات فوقيّة لا تصل إلى شرانق القدامى وحتى وإن سمحت بتعدد الأحزاب فتكون النتائج أكثر كارثيّة، فتستعير هذه الأحزاب أسماء حداثيّة، ولكن يبقى جوهرها غارقاً في أوحال الماضي مثل الأحزاب الطائفيّة في لبنان والعراق.
لهذه الأسباب تبرز فكرة الزعامة الأبويّة في مجتمع بطريكي بامتياز، هذه الزعامة تستطيع أن تتخذ إجراءات حاسمة ومؤلمة في لحظة تاريخيّة معينة، تهدف إلى الحفاظ على المجتمع على المدى البعيد وتحدث نقلات نوعيّة في البنى الاجتماعيّة، وإن صادفت استنكاراً أو فزعاً من بعض مكوّناته، وهذا ما أطلق عليه «ماكس فيبر» أخلاق المسؤولية في القرار السياسي.
ولنا في التاريخ العربي ثلاث حالات من هذا النوع، وهي قرارات محمد علي في مصر في القرن التاسع عشر. والقرارات التاريخيّة للحبيب بورقيبة والشيخ زايد في القرن العشرين. فمحمد علي استطاع أن يزج بمصر والعالم العربي الإسلامي في مواجهة مع سؤال محرج: كيف تطوّر الغرب وتخلفنا نحن؟
والحبيب بورقيبة استطاع أن ينأى بنفسه وبلده عن تلك الآيديولوجيات القاتلة التي كان يعجّ بها الفضاء العربي، وحاول أن يكرّس حياته من أجل نقل المجتمع التونسي من مجتمع قبلي وجهوي إلى مجتمع حضاري مؤسس أعطى نتائجه التي نراها الآن في تحرير نصفه المكبّل، وبروز النخب الحداثيّة التي استطاعت احتواء المدّ الرجوعي الإخواني بعد ما سُمي الربيع العربي.
والشيخ زايد بن سلطان الّذي استطاع أن يبني دولة مؤسسات حديثة بمضمون تنموي رائد منفرد ومتفرّد في المنطقة العربيّة كلّها حتّى أضحت مدنه الرئيسيّة دبي وأبوظبي صنواً لباريس ولندن ونيويورك، يحجّ إليها كبار المستثمرين ورجال المال والأعمال والباحثون عن الأمل والأمن.
غير أنّ الثورة الكبرى، بسبب حجم الدولة السكاني والاقتصادي والروحي، هي ما يقوم به اليوم الملك سلمان وولي عهده في المملكة العربية السعودية.
فالمملكة العربية السعودية كانت مارداً نائماً، وفي يقظته سوف يهزّ المنطقة بكاملها، ويغدو قاطرة تقود العرب إلى عصر جديد إذا حالفها النجاح، ولا أعتقد أنّها سوف ترضى بأقل منه.
ورغم حداثة التجربة فإننا نستطيع أن نتبيّن منها:
أولاً: الرؤية الاقتصاديّة الطموحة التي سوف تنقل المجتمع السعودي من مجتمع استهلاكي يعتمد على الريع النفطي، إلى مجتمع منتج في مجال الخدمات والصناعة والمنافسة وإقحام الشباب في العمليّة الاقتصاديّة.
ثانياً: رؤية معرفيّة، وذلك بالانتقال من مجتمع مقيد إلى مجتمع يجترح الحلول الجديدة لمشكلاته المعاصرة، وفكّ الارتباط بين البدعة والإبداع التي كبّلت العقول.
ثالثاً: محاربة التطرف من خلال خطّة تربويّة تغيّر نظرة الإنسان إلى نفسه والآخر وانتقاله من حالة العصاب الجمعي المضر إلى حياة الانفتاح على تجارب وثقافات وعقائد الآخرين.
رابعاً: محاربة الفساد الّذي يعرّض أي خطة تنموية للفشل، وترشيد الإنفاق وعقلنة استخدام الموارد.
خامساً: أنسنة المجتمع، وذلك بالاحتفاء بالحياة ومباهجها، وحصر مهمّة الدولة في إدارة الحياة، ومساعدة الفرد على الترقي الذهني والنفسي والمادي دون اجتياح الضمائر التي لا تخلق غير مجتمع يعج بالنفاق.
هذه الرؤى التي استلهمتها مما برز من خطط الإصلاح في المملكة العربية السعودية، سوف تكون بداية عصر النهضة العربية التي طال انتظارها، وأخلفت موعدها مع التاريخ في العديد من المرّات، لأنّها لم تجد أميراً أو ملكاً أو رئيساً في استقبالها، كما حدث في أوروبا مع آل «مديتشي» في فلورنسا على سبيل المثال.
وإذا كنت محقاً فيما استنتجت أستطيع أن أقول إنّ ما يحدث في السعودية ربيع حقيقي دون دماء.