مشعل السديري
صحافي وكاتب سعودي ساخر، بدأ الكتابة في الصحف السعودية المحلية، ثم في صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، تتميز كتاباته بالسخرية اللاذعة، ويكتب عموداً ثابتاً في «الشرق الأوسط».
TT

الخطبة غير العصماء

قبل عدة سنوات، كدت (أودي نفسي في داهية)، لولا لطف الله وتراجعي في آخر لحظة.
والحكاية وما فيها أنني ذهبت في أحد الأيام لأداء صلاة الجمعة، كعادتي، في أحد المساجد. كانت سمات الخشوع والوقار تتلبسني من رأسي إلى أخمص قدمّي - كعادتي أيضاً.
غير أن ما لوح رأسي، وإطار بعضاً من سمة الخشوع والوقار التي كانت تتلبسني، تلك الخطبة غير العصماء التي خرجت كلماتها من فم الإمام وكأنها طلقات رصاص حارقة تخرج من فوهة بندقية (كلاشنيكوف)، وكلها تصب اللعنات على الكفرة من دون تمييز.
ولكن أن تصل إلى حد الدعوات على سحقهم ومحقهم من الوجود، فهذا هو الذي لم أتصوره أو أهضمه. فقررت بعد الصلاة أن ألفت نظره بكل أدب إلى أنه قد بالغ وتجاوز الخط الأحمر في دعواته، لأنه لولاهم لما كان هناك ميكرفون يلعلع الآن أمام فمه، ولما كانت هناك ساعة تطوق ساعده، ولما كان هناك «إير كوندشن» يبرد علينا مسجدنا، ولما كانت لديه هو سيارة يركبها بعد الصلاة، وتوصله سالماً غانماً إلى منزله.
وبعد أن انتهينا، ذهبت إليه مصافحاً، وأخذت (أوشوش) له عن ملاحظاتي، وإذا به وقبل أن أكمل وشوشاتي ينفض يده من يدي، قائلاً بصوت مرتفع: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وأعطاني عرض أكتافه المكتنزة.
واليوم، قرأت التقرير الصادر عن مؤسسة «بيل وميلندا غيتس» الخيريّة التي جاء فيها:
إنه من عام 1990 إلى 2016، انخفض عدد وفيات الأطفال في كل ألف ولادة من 85 إلى 38، ووفيات الأمهات في كل مائة ألف من 275 إلى 179، وأن نقص النمو وعدم اكتمال أجسام المولودين حديثاً قد تقلص من 36 في المائة إلى 26 في المائة، وأن فقر العيش على أقل من دولارين في اليوم قد تقلص من 22 في المائة إلى 16 في المائة، وأن الأمراض المحاربة المهملة لكل مائة ألف شخص قد انخفضت من 47 ألف إلى 27 ألف فقط، وأن سكان العالم قد ارتفعت نسبة الذين يتلقون اللقاحات منهم من 73 في المائة إلى 89 في المائة.
وأن، وأن، وأن، لا أريد أن أدوشكم بكثرة استعراضاتي، أو بمعنى أصح بكثرة إحصائياتي - خصوصاً أن عدد الكلمات في عمودي المتواضع هذا محسوب عليّ.
ولكن فقط تخيلوا لو أن الله سبحانه وتعالى قد استجاب لكل دعوات ذلك الإمام الجهبذ، وسحق ومحق كل حضارة الغرب من الوجود، فكيف يكون حالنا بعد الذي نحن عليه؟!
غير أن الله سبحانه هو أدرى وألطف بعباده، وشكراً شكراً.