خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

النجس وغير النجس

كنت عائداً للعراق بسيارتي ومررت بإحدى الدول المجاورة. نظر ضابط الحدود بجواز سفري وقال: فيزتك هذي غير صالحة. يجب أن أتصل بالعاصمة وأحصل لك على فيزة جديدة. جلست أنتظر ومرت الساعات حتى اقترب المساء. شعر الجايجي (النادل) بمحنتي فجاء وهمس في أذني: «يا أستاذ ما راح تجيك فيزة إلى يوم القيامة. ادفع للضابط كم دولار وامشِ». صعقت عندما سمعت ذلك. فلم يكن من المعتاد في تلك الأيام أن ندفع في العراق رشوة للضابط لنمر في طريقنا. لم تكن الرشوة معتادة في العهد الملكي.
تفاقمت حكايات الرشوات والسرقات الآن إلى حد جعلها تبدو طبيعية. لم يعد الكثير من الناس يميزون بين الكسب الحلال والكسب الحرام. وهذا يذكرني بحكاية المهيلة (السفينة النهرية التي اعتاد الجمهور على استعمالها في تلك الأيام). غرست واحدة منها بقعر النهر عندما كان مستوى الماء واطئاً. استنفد البحارة كل قوتهم في تحريكها عبثاً. وبدأ الجوع يأكل فيهم وفي المسافرين. وجدوا في قعر السفينة خصافات (أكياس) تمر. ولكنها كانت قريبة من دورة المياه. كيف نأكل هذا التمر المنجس؟ اقترح أحد المتعلمين الأفندية أن يفتحوا الخصافة ويرموا في النهر ما تنجس من التمر ويأكلوا السليم. أخذ أول تمرة وقال: هذي مو نجسة. وأكلها. أخذ تمرة ثانية وقال: هذه نجسة ورمى بها. ومضى هكذا في شأنه يأكل ما يطيب له ويقول: هذي مو نجسة. ويرمي في الشط ما يعتبره نجساً.
استمر الأمر على هذا المنوال حتى استنفدت الخصافة ولم يبق منها أي تمر. ما طاب منها أكله المسافر الأفندي وما لم يعجبه ألقى به في النهر ليأكله السمك. قالوا له: يا أفندي الشوم، أنت والسمك أجهزتم على الخصافة. اترك الخصافات الأخرى لنقوم نحن بفصل النجس من غير النجس ونأكل الحلال ونرمي بالحرام للسمك.
فعلوا ذلك وتقاسموا التمر الحلال ورموا في النهر ما اعتبروه نجساً. استمروا على ذلك المنوال حتى ارتفع مستوى ماء النهر وخف وزن المهيلة فاستطاعت أن تعوم ثانية وتواصل سفرتها والقوم يقفون على سطحها ويصفقون ويهتفون: ما شاء الله، ما شاء الله...
هذا ما يحصل لمعظم دول الشرق الأوسط. فما بقيت السفينة غارسة في الوحل والطين، كما هو الحال في معظم الدول في منطقتنا، سيصعب على القوم الفصل بين التمر الحلال والتمر الحرام، بين ما يحصلون عليه من رزق حلال بجدهم وعملهم ومن رزق حرام يقوم على الرشوات والسرقات. وطالما بقي الأفندية يتولون عملية الفصل بين الرزق الحلال والرزق الحرام فستبقى سفينة الحكم غارسة في الوحل والطين.