إميل أمين
كاتب مصري
TT

قراءة على هامش التصويت

ستبقى ليلة الخميس المنصرم حاضرة في أذهان العالم عامة، والشعوب العربية والإسلامية خاصة، إذ أثبتت أن هناك رُكباً لا تجثو للبعل الذهبي، ولم تعد تصلح معها سياسات العصا والجزرة، أو ذهب المعز وسيفه.
صوتت غالبية الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة بـ128 صوتاً لصالح القرار الذي طرحته مصر، والذي يطالب بعدم الاعتداد بأي تغيرات تجرى على الوضع القائم في القدس، والمقصود بالطبع قرار الرئيس دونالد ترمب الخاص بإعلان القدس عاصمة لدولة إسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها.
هل جاء هذا التصويت ليمثل وقفة مفصلية في مسار ومسيرة القضية؟
لنا في هذا السياق عدة ملاحظات أولية سريعة، ولا تغني عن التحليلات العميقة التي ستتمخض عنها الأيام، ومنها:
بداية، أثبت المجتمع الدولي أنه غير مرتهن للإرادة الأميركية؛ بل إنه يرفضها رفضاً من الأعماق، سيما أن الرئيس ومندوبته لدى المنظمة الدولية تعاطيا مع العالم برمته بلغة فوقية، لغة تجاوزها الزمان، ويبقى قرار الجمعية العامة قيمة أدبية وأخلاقية، وإن لم يكُ ملزماً.
تسع دول فقط التي صوتت ضد القرار الذي طرحته مصر، وهي دول يمكن وصفها بأنها تعيش على هامش الجماعة الدولية، مثل جمهورية ناورو، وجمهورية بالاو، وولايات ميكرونيسيا المتحدة، وغواتيمالا، وهندوراس، وتوغو من أفريقيا، عطفاً بالطبع على أميركا وإسرائيل، ما يعني انفضاض حلفاء أميركا من حولها، عطفاً على القطع بأن ورقة التوت سقطت عن الشريك الأميركي في عملية السلام.
فيما الأمر الآخر الذي يستحق أن نتوقف أمامه ومعه، هو الدول التي امتنعت عن التصويت، ونسبة غالبة منها من الجمهوريات الأوروبية الشرقية الوليدة، مثل لاتفيا وليتوانيا، أما الدول التي تسعى لإرضاء العم سام، كرومانيا والمجر، فقد تعللت بأن القرار لا يصب في خدمة عملية السلام، وهو موقف غير مبرر.
على أن هناك ما لا يغيب كذلك عن الأعين، وهو أن تلك الدول التي امتنعت عن التصويت، أكدت في حيثياتها على حل الدولتين، وعلى أن الوضع الخاص بالمدينة المقدسة لا يمكن التوصل إليه إلا من خلال المفاوضات النهائية بين الطرفين، ودون قرارات استباقية.
جزء غالب من تلك الدول الممتنعة جاء من أميركا اللاتينية، وهذا يقرأ على مسارين؛ المسار الأول هو أنها لا تزال دولاً قائمة تحت التهديد الأميركي المالي واللوجيستي، وأن أوضاعها لا تقوى على مزيد من المواجهة مع واشنطن.
فيما المشهد الثاني يتصل بأحوال الدبلوماسية العربية، وكيف أنها خلفت وراءها منطقة أميركا اللاتينية التي كانت دائماً مناصرة لقضايا التحرر العربي، وفي المقدمة منها القضية الفلسطينية، سيما في خمسينات وستينات القرن الماضي، ما يستدعي مراجعة عقلانية وإعادة بناء الجسور التي تقطعت مع دولها.
والشاهد أنه إذا كانت هناك بعض الدول التي لم نصدم في امتناعها، مثل أستراليا، فإن امتناع دول مثل كندا قد سبب حالة من الحيرة والارتباك في فهم موقفها، وبخاصة أن رئيس وزرائها ترودر صديق للعرب والمسلمين بامتياز، ومواقفه من المهاجرين رائعة، وتحديه وتصديه لرؤى ترمب لا تخطئها العين، كما أنها دولة متقدمة اقتصادياً بامتياز، ولهذا لا تخشى من قطع ترمب المساعدات المالية عنها.
تصويت غالبية دول الاتحاد الأوروبي مع القرار يعني أن الشقاق والفراق سوف يتعمق بين الأعضاء في الناتو اليوم وغداً، ما يدعم التوجه الأوروبي نحو بناء «أروآسيا جديدة» ربما.
قطع دونالد ترمب أي حديث عن دور لبلاده حول العالم كرائدة تنوير، ومن أسف شديد فإن لغة التهديد والابتزاز التي استخدمتها نيكي هيلي وهو أكدها من بعدها، لا ترقى أبداً إلى مستوى دولة عظمى، ولا تتلاءم مع فكرة أميركا كمدينة فوق جبل تنير للعالم، حرية وديمقراطية وحقوق إنسان.
يفهم المرء أن السيدة هيلي تضع عينيها على البيت الأبيض كمرشحة للرئاسة في 2020 و2024؛ لكن ترمب ما الذي يدفعه لهذا المشهد الذي لا يستند إلى أي مرتكزات قانونية أو أخلاقية؟ ثم وهذا هم الأهم في المشهد: هل حسم الرجل قراره بمعاداة ومعاقبة 128 دولة حول العالم من أجل إسرائيل وحدها؟
لقد تفاءل الجميع من دونالد ترمب الآتي من بعيد جداً، وبمساحة واسعة عن نظرائه في عالم السياسة الأميركية المهترئة، لكن يوماً تلو الآخر يثبت لنا أن هناك أيادي خفية تدير دفة السياسة الأميركية، ومن دون الإغراق في نظرية المؤامرة.
الكرة الآن في الملعب العربي والإسلامي، وانتصار الجمعية العامة يصلح لأن يكون منطلقاً ومرتكزاً للبناء عليه إن أحسن إدراكه، والشرعية الأخلاقية للقرار تفتح للقضية أبواباً غير مطروقة، من محكمة العدل الدولية، مروراً بالجنائية الدولية، وصولاً إلى الكيانات الدينية الكبرى، كالفاتيكان الداعم لوضع القدس الحالي والرافض لتغييره.
وفي هذه الأثناء علينا انتظار ردات الفعل الأميركية، وهل ستعمد واشنطن إلى مراجعة ذاتية عقلانية، أم سنرى ثوراً في محل للخزف؟