خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

مدينة الجواسيس وصراعاتها الفكرية

هكذا عرفت مدينة برلين خلال الحرب الباردة. أطلق الجمهور عليها هذا اللقب «مدينة الجواسيس». بيد أنها أصبحت أيضاً بوتقة للصراع الفكري بين العالم الغربي الديمقراطي والعالم الشرقي الشيوعي. أخذ هذا الصراع رمزين بينهما. راح العالم الشيوعي يتباهى بشارع ستالين الذي شيده الروس في برلين الشرقية ليصبح مفخرة للبناء السوفياتي، عمارات ثقيلة وزخارف عفى عليها الزمن. وفي مقابل ذلك طرح الأميركان في برلين الغربية بديلاً مختلفاً تماماً. شيدوا «دار ثقافات العالم». بناء معاصر يعتز بتجريديته وعالميته وحداثته. أشرفت المخابرات الأميركية، الـ«سي آي إيه»، تحت إشراف إليانوره دالاس، شقيقة رئيس المخابرات، على توجهات هذه الدار في مفاهيم «البارا بولتكس».
سرعان ما أصبحت هذه الدار مسرحاً لكبار الفنانين المعاصرين مثل جاكسون بلوك ومارك روثكو ووليم كوننغ. كانت الفكرة الذكية للسيدة دالاس أن تحول الحرب الباردة إلى حرب بين القديم والحديث، أو كما قال النقاد إلى صراع لكسب تفكير بيكاسو، ذلك الفنان الذائع الصيت. معظم ما قدم في هذه الدار جاء في إطار المدرسة التعبيرية التجريدية. وكان رائد هذه المدرسة من دون منازع الرسام الأميركي جاكسون بلوك.
لقد انتهت الحرب الباردة بفوز العالم الحر فوزاً كاسحاً. ويظهر أن مديري «دار ثقافات العالم» شعروا بدورهم في تحقيق هذا النصر، فرأوا أن من المناسب، بل ومن اللازم، الإشادة بدورهم. فأقاموا هذا المعرض في برلين الذي يتباهى بما أنجزه ويعترف في الوقت نفسه فيما أبداه من نشاط. فإن «دار ثقافات العالم» لم تقتصر على مواجهة ثقافات العالم الشيوعي في العاصمة برلين بل تعدته إلى نشاط أخطبوطي لعبت فيه دوراً متشعباً المخابرات الأميركية في أيام الحرب الباردة، عندما كانت برلين ساحة المعركة الآيديولوجية بين الشرق والغرب.
ونحن بدورنا نتذكر أوجه هذا النشاط الآيديولوجي حين كنا نتهم الكثير من أوجه النشاط الفكري بأنه من صناعة المخابرات الأميركية. وفي هذا المعرض الذي ضم الكثير مما أبدعت به المخابرات الأميركية في عالمنا العربي. نجد نماذج منه في هذا المعرض الذي ضم نماذج مما شهدناه في الأمس القريب. لا بد أن يتذكر بعضنا نماذج منه، حيث احتوى المعرض على نسخة من مجلة «حوار» لصاحبها الشاعر والأديب توفيق الصايغ. اتهمناه بالعمالة للأميركان والـ«سي آي إيه». لقد توفي هذا الأديب منذ عدة سنين. وها هي الشهادة على ما كنا نقوله، وكان جزءاً من النشاط الفكري للعالم الغربي. نعتز بها الآن ونتبارك كأنماط من التدفق الفكري والفني للعالم الحر. «حوار» واحدة من بنات المخابرات الأميركية من مجلات ونشاطات فاض بها النظام الرأسمالي في أفريقيا وأميركا اللاتينية وكل ساحات العالم الثالث. كلها لعبت جميعاً دورها في صياغة العالم الفكري والفني الذي نجد أنفسنا نخوض فيه الآن.