خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

الجنود السلابة

في القرن الخامس الهجري، كثيراً ما تعرض الجند لانقطاع رواتبهم كما يروي ابن الجوزي، ونقله عنه الأستاذ الفاضل بدري محمد فهد في كتابه القيم «العامة ببغداد في القرن الخامس الهجري». وكان انقطاع الرواتب والتخصيصات إشارة للجند في بث الفوضى في البلاد. وحاصروا قصر الخليفة جلال الدولة بما اضطره إلى عرض متاع بيته من الفرش والثياب وأدوات المطبخ، ويؤكد لهم أن هذا كل ما في قصره. ويعدهم بدفع رواتبهم في القريب العاجل. ولم يعالج ابن الجوزي هذه الظاهرة، ولماذا توقف دفع الرواتب العسكرية. بيد أنه كثيراً ما أدى ذلك إلى ارتفاع الأسعار وشيوع القحط في الأسواق.
هكذا فعل أيضاً وزيره عندما حاصر الجند بيته، فأخرج لهم ما في البيت من ثياب ولوازم بيتية وسفرة الطعام. بيد أنهم لم يقتنعوا بكلامه فهجموا على البيت واقتحموه ونهبوا كل ما وجدوه أمامهم.
وفي عام 1038م لم يتسلموا رواتبهم أيضاً فتصوروا أن أحد أمرائهم، الأمير بارسطفان، قد سرق رواتبهم فهاجموا بيته، ولكنه هرب ولاذ بقصر الخليفة كما كانوا يفعلون غالباً. ورغم أن الخليفة قد خرج إليهم ووعدهم بدفع رواتبهم، بيد أنهم لم يصدقوا كلامه، فنصبوا الخيام العسكرية على شواطئ النهر كإشارة لإعلان الفوضى والتمرد. راحوا يسرقون المواشي والحيوانات من الفلاحين والرعاة. وأخذوا يهاجمون المارة ويسرقون ثيابهم. واضطر الناس إلى استئجار حرس يمشون وراءهم ويحرسونهم. حدث ذلك حتى في أيام العيد وخروج الناس لأداء صلاة العيد في الجامع.
وبعد سنوات قليلة لم يتسلم الجند رواتبهم في عام 1041م، فخرجوا للدروب والأسواق ليعتدوا على الناس، وينهبوا ما عليهم من ثياب وعدة. وشاعت في البلد موضة خطف عمائم المعممين من فوق رؤوسهم أثناء سيرهم في الطرقات والأسواق. وشاعت الفوضى وتحديات السلطة بحيث أقدم الجند على إغراق امرأتين عمداً في نهر دجلة.
وكثيراً ما كانت حالات الفوضى هذه تنتشر في بغداد كلما سمع الجند والجمهور أن الخليفة أخذ يعاني من مرض، أي مرض كان. وبدلاً من الذهاب للجوامع والصلاة والدعاء له بالشفاء، كانوا يعلنون التمرد، فيسرقون وينهبون ما حدثتهم به أنفسهم. وما إن يسمعوا ويتحققوا بأن الخليفة قد تعافى وشفي من المرض فإنهم يعودون لرشدهم واستقرار أسواقهم ومحلاتهم العامة. وهذه ظاهرة عجيبة تلفت النظر وتتطلب علماء اجتماع وسيكولوجيا لتفسيرها والخوض فيها.
نسمع في أيامنا هذه انقطاع الرواتب في العراق عن بعض قطاعات الدولة، ولا سيما في النواحي البعيدة عن العاصمة. بيد أنني لم أسمع بعد عن انقطاع رواتب الجند. الظاهر أن أولي الشأن قد تعلموا مما ذكرته أعلاه درساً بليغاً من بغداد القرن الخامس الهجري. افعلوا أي شيء ولكن إياكم وإياكم من قطع رواتب الجند.