بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

الوعد الانتخابي والمجد الشخصي

الأربعاء الماضي، ذكّر السياسي ذو التجربة العميقة الجذور، لورد مايكل هيزلتاين، بقيمة ذات مغزى عميق لدى كل معني بتحييد الهوى الشخصي عندما يتعلق الأمر بالممارسة السياسية، وهي قيمة تكاد تندثر من قواميس ساسة كُثر في العالم. سُئل اللورد، من قِبل مُحاوِره في فضائية «بي بي سي» الإخبارية، عما إذا كان يعتقد أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سوف يتحقق بالفعل، فأجاب بأنه شخصياً يتمنى أن ينتهي مشروع «بريكست» إلى الفشل، لكنه يجب أن يضع رؤيته الذاتية جانباً قبل إصدار أي حكم، وبالتالي من السابق لأوانه توقع ما ستنتهي إليه مفاوضات الحكومة البريطانية مع مسؤولي الاتحاد في بروكسل.
أصاب هيزلتاين، الذي وصف في ذروة انشغاله بالعمل السياسي خلال ثمانينات القرن الماضي بأنه «طرزان» حلبات السياسة البريطانية عموماً، وحلبة حزب المحافظين على وجه التحديد، خصوصاً طوال سنوات زعامة مارغريت ثاتشر التي كان هو أحد أبرز زعامات حزبها ممن تحدوا قبضتها الحديدية، وقد ظل له دوره البارز في مسار حزبه، حتى أنهت تيريزا ماي، رئيسة الحكومة، خدماته كمستشار، بعدما اشتد أوار معارك حزب المحافظين الداخلية في شأن علاقة بريطانيا بمحيطها الأوروبي.
بصرف النظر عن الموقف الشخصي من مشروع «بريكست»، سواء داخل بريطانيا أو خارجها، يمكن ملاحظة وجود اتفاق يلتقي حوله كثيرون من ذوي الخبرات السياسية، خلاصته أن استفتاء 2016 لم يكن ضرورياً. بالوسع أن أضيف، في ضوء قول اللورد هيزلتاين، وبعد متابعة خضّات ما بعد الاستفتاء، أن قرار الاستفتاء لم يكُ من اضطرار إليه سوى رغبة ديفيد كاميرون في الالتزام بوعد شخصي قطعه على نفسه، وألزم حزبه أن يضمنه برنامج المحافظين لانتخابات 2015، التي فاز فيها الحزب فوزاً كاسحاً تبدد هباءً في انتخابات 2017 الطارئة، بفعل ردات الفعل على ما بعد استفتاء «بريكست» ذاته.
صحيح أن وفاء السياسي بالوعد الانتخابي يحمل من النبل ما يوجب منح المُوّفي وعده وسام تقدير. إنما، في الآن نفسه، معروف لكل ذي حد أدنى من خبرة تتبع عمل ساسة الغرب أن آخر همّ الناجحين منهم هو كيل المديح لجهة الالتزام بوعود انتخابية، كثيراً ما توضع جانباً، ومنها ما يتعلق بالحياة اليومية للناخبين، مثل خفض ضرائب الدخل، وزيادة الإنفاق على الخدمات. يمكن هنا استحضار قول لونستون تشرشل، الزعيم الأبرز بين قادة حزب المحافظين وقائد بريطانيا للانتصار في الحرب العالمية الثانية، مضمونه أنه غير معني بمقدار شعبيته قدر اهتمامه بقوة نفوذه.
لقد أضاع كاميرون تماسك حزبه، أولاً. وأضعف وضع المحافظين الانتخابي، ثانياً. وضعضع مكانة بريطانيا وإمكانية تأثيرها الحيوي داخل الفلك الأوروبي، ثالثاً. ثم إنه، رابعاً، ضيّع مستقبل دور واعدٍ له شخصياً، كان بالوسع أن يؤديه حتى انتخابات 2020، ومن بعدها أيضاً. لماذا؟ لمجرد إرضاء تيار انعزالي يمثل أقلية داخل حزبه، ويعاني المنتمون إليه عقدةً اسمها أوروبا، ثم تصادف أنهم يلتقون في ذلك مع نايجل فاراج، وهو رجل ليس بالوازن في الحقل السياسي داخل بريطانيا، وما هو بالمتوازن في الشأن الأوروبي. النتيجة؟ ارتباك يوصل لآخر. لا أحد يدري على وجه التحديد إلى أين، وكيف سينتهي مسار «طلاق» بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ربيع عام 2019، وبأي تكلفة، إضافة إلى فاتورة رسوم الطلاق التي اتُفق عليها أخيراً، وبلغت خمسين مليار جنيه إسترليني، كان بالوسع تخصيصها لتحسين الخدمات في مجالات شتى.
الشيء ذاته يجوز أن يُقال عن قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بشأن القدس. نعم، هو نفّذ ما وعد به خلال حملته الانتخابية. لكن، هل إن ذلك الوعد منسجم مع المنطق في الأصل؟ كلا. ألم يكن في الإمكان تأجيل التنفيذ؟ نعم. هل هناك احتمال أن الرئيس ترمب انساق وراء هوى شخصي بتعجيل تطبيق وعد القدس؟ بلى. النتيجة؟ تأليب معظم دول العالم على أميركا، ثم استعمال لغة تهديد تطال حلفاء لواشنطن في الحرب على الإرهاب والتطرف. كم هو رفيع الخيط الفاصل بين وفاء السياسي بوعد انتخابي، وهو أمر مطلوب شرط الفصل بين تعجيل التنفيذ لاكتساب مجد شخصي ووضع المصلحة الآنية العليا أولاً، والعمل بحكمة قديمة - متجددة، خلاصتها أن للضرورات أحكامها.