محمد الرميحي
أستاذ الاجتماع السياسي في جامعة الكويت. مؤلف عدد من الكتب حول مجتمعات الخليج والثقافة العربية. رئيس تحرير مجلة «العربي» سابقاً، ومستشار كتب «سلسلة عالم المعرفة». شغل منصب الأمين العام لـ«المجلس الوطني للثقافة» في الكويت، وعضو عدد من اللجان الاستشارية في دولة الكويت. مساهم بنشر مقالات ودراسات في عدد من الصحف والمجلات المختصة والمحكمة.
TT

الصمت المسموع في إيران

ليس مثلي من يفاجأ بما حدث في إيران الأسبوع الماضي، فقد كتبت تحليلات كثيرة على مدار سنوات، إن النظام الإيراني يسير في سكة مسدودة، آخر ما نشر في هذا المكان في 16 من الشهر الماضي ديسمبر (كانون الأول)، واسمحوا لي أن أذكر ببعض النص: (إيران تقدم نموذجاً في الاقتصاد مثقلاً بالقصور والفساد، ويخلف ملايين العاطلين والجوعى، كما تقدم نموذجاً سياسياً يقلص الحريات إلى ما دون الصفر)، كان ذلك جزءاً من مشروع فكري يناقش (المشهد الإيراني) من منظور صيرورته التاريخية، الذي ما زلت أعتقد أنه يحمل بذور فنائه! ليس بسب رغبة عاطفية أو تحيز مسبق، إنها مسيرة التاريخ في المجمل، خصوصاً تاريخ القرن العشرين، الذي لم يطق صبراً مع أي شكل من أشكال الديكتاتورية الصلبة، ذات البعد المؤدلج، الراغبة في تصدير منتجها مغلفاً برغبة التوسع والهمينة. الاتحاد السوفياتي السابق تاريخه يشهد على ذلك، وتجربة الصين تثبت العكس حيث اقتنع قادتها بأن الاستمرار في المكان يؤدي إلى الذبول والموت بالمعنى الرمزي للأمم.
الثابت في مسيرة المجتمعات هو اللا ثبوت، سواء في المكان أو الزمان، الشعوب مثل مياه الأنهار تجدد نفسها، في مكان ما تخلق آلية التجديد السلمي، وفي مكان آخر تتصلب قواها حتى يكتسحها السيل، مشهد إيران الحديثة مختبر يدعو إلى التفكر، فقد تصلب حكم الشاه محمد رضا حتى غدا عبئاً حتى على مناصريه، لم تفلح حركة مصدق 1952 في التخلص منه، ولكن بعد ذلك سهل اقتلاعه، كانت حركة مصدق مسماراً في النعش، بعدها تراكم الغضب الشعبي، وتحول من كمي إلى كيفي، والشعوب الإيرانية الآن تكرر ما تم في السابق. حتى لا يفهم أحد أن ما يحدث اليوم في إيران وما حدث في الأسبوع الماضي، أو حتى قبل ثماني سنوات (2009) هي القشة التي سوف تقصم ظهر البعير، ربما البعير ما زال يستطيع أن يحمل بعض الثقل، وهو ما أراه الآن، إلا أن ما يحدث هو (مسمار في النعش)، في مكان ما في المستقبل، وفي لحظة ما فارقة، سوف ينكسر ذلك الظهر، لأن النظام الإيراني يفتقد، بطبيعة تركيبه، آليات التغيير السلمي المؤدية إلى الاستقرار، فهو قائم على حكم ولاية الفقيه المعصوم المطلقة، وذلك يخرجه عن السياق التاريخي القادر على تقديم بديل أو بدائل مناسبة تحفظ استمراريته. من ملابسات التاريخ أن هناك تماثلاً بين (الستالينية والخمينية) كان ستالين يعتقد أنه وبلاده مهدد من (القوى الإمبريالية) وكان أيضاً مهووساً بداء العظمة، وسمي أيضاً «فوزل» (القائد الأعلى) باللغة السلافية، إنه (تماثل الدكتاتوريات) حتى في المسميات.
أين تكمن مناطق الأخطاء الكبرى لهذا النظام، لقد قالتها بعض الفيديوهات المسربة من الشارع الإيراني الأسبوع الماضي (نريد خبزاً كما نريد حقن دماء أبنائنا وعدم زجهم في حروب) من الأخطاء الكبرى هو اعتقاد واهم أن النظام الإيراني، كما وضعه الملالي، قابل أن يسودَ في المنطقة وما خلفها، فكرة إنشاء إمبراطورية من مخلفات الزمن. مرة أخرى نعود إلى تجربة الاتحاد السوفياتي الذي أعتقد في وقت ما أنه قادر على أن يخلق إمبراطورية، خلف الأفق، لأنه يمتلك الآيديولوجيا والقدرة على التمويل للحركات المناصرة، على حساب شعوب الاتحاد نفسه، بعد نحو سبعين عاماً هرم النظام وشاخت الآيديولوجيا، وفشل في تقديم نموذج اقتصادي يرقى إلى إطعام العامة، فانهار، كذلك هي تجربة حديثة تتبلور أمامنا في الولايات المتحدة، وإن بصورة أخرى، فقد كانت الجماهير الأميركية تبحث عن البديل الذي يقدم لها الخبز والوظائف، ولا شيء غير ذلك، لذا فاز السيد دونالد ترمب بالرئاسة، كتاب هيلاري كلينتون الأخير وعنوانه «ماذا حدث»؟ يؤكد ذلك، فهي تعترف أن معسكرها لم يتبيّن، أثناء الحملة الانتخابية، عمق (الألم الاقتصادي الذي سبب الاضطراب وعدم الرضا في المجتمع الأميركي! كان ذلك التجاهل جزئياً هو سبب خسارتها السباق، كما قالت في الكتاب، فإن كان ذلك صحيحاً للدول الكبرى، فهو أصح للدول المتوسطة كالقوة الإيرانية الحالية.
الاشتباك الإيراني في الجوار، الذي هيأ له ضعف وخوار الدولة التي كانت (في العراق وفي اليمن وفي لبنان) كما هيأ له الاندفاع لحفظ كرسي بشار الأسد في سوريا، واختارت طهران تصليب عود ديكتاتور صغير قتل من شعبه ما لم يقدر أن يقتله منه أحد من الغزاة، على أمل الاستمرار، صادف الاندفاعَ الإيراني نجاح نسبي، ولكن النجاح النسبي للمشروع الإيراني كان بسبب ظروف مؤقتة، اعتمد أولاً على الخزينة العراقية والتي تم استنزافها في عهد نوري المالكي لصالح التوسع الإيراني، وهي منذ فترة لم تعد بقادرة على التمويل، الذي عاد من جديد عبئاً ثقيلاً على الخزينة الإيرانية، فغدت السلطة في طهران غير قادرة على الاستمرار في الحرب، وفي الوقت نفسه إطعام وتشغيل ملايين من الإيرانيين، فاختارت الحروب التوسعية، فثارت الشعوب الإيرانية التي لم تعد بقادرة على تقديم تضحيات أكثر، وتبين للجميع أن فكرة تصدير الثورة خارج التاريخ، وبل خارج العقل أيضاً.
ما لا نتحدث عنه عند الحديث عن النظام الإيراني، إنه نظام قمعي، فسجون الجمهورية الإسلامية فاقت في العدد والعدة سجون سافاك الشاه، وعدد مرات الإعدام لم يكن حتى الشاه بقادر على فعلها، كما أن داخل أجنحة النظام صراع قوى يظهر في المزايدات على بعضهم بعضاً، أما الطامة الكبرى فهي (معصومية رجل) في عالم لم يعد أحد معصوماً فيه! وهو الرجل الذي أتيح له لسبب انتهازية سياسية أن يكون كذلك. كبار رجال (الثورة) جاهروا برغبتهم في تغيير التركيبة عندما تسربت من يدهم السلطة، المرحوم هاشمي رفسنجاني (عراب خامنئي) قال بذلك قبل وفاته، وقال به أيضاً محمود نجاد على شاشة التلفزيون الفرنسي الناطق بالعربية، عندما منع من الترشيح مؤخراً. الطريق السهل للبروباغندا الإيرانية ومناصريها القول إن ما حدث في مدن إيران مؤخراً هو (مؤامرة خارجية) قال ذلك الشاه من قبل عندما فاضت شوارع طهران بالمحتجين ضد سياساته، ويقوله كل ديكتاتور لا يريد أن يعترف بالواقع أو يرى الحقائق كما هي، دائماً مثل تلك السلطات تخلق (حقائقها الخاصة بها) هي الهروب إلى الأمام لا غير. معتمدة على القدرة المؤقتة على الإكراه. الدروس التي يمكن أن يستخلصها الجانب العربي الذي ما زال يؤمن بالمشروع الإيراني، على قلته، هو إعادة النظر في حق (مجلس الأوصياء) في تقرير مصيرهم، فقد ظهر لهم الجانب المظلم والمعتم من النظام، هو أمثولة سوداء لا بريق لها ولا تقدم أي أمل في المستقبل، طبعاً غير القمع والفقر، الذي جعل من فقراء المدن الإيرانية يخرجون بالآلاف ممزقين في طريقهم بغضب كل شعارات وصور (الأوصياء) في الجمهورية الإيرانية الإسلامية، التي تحصد من الآن وصاعداً ثمار مشروع لا مستقبل له.
آخر الكلام
الديكتاتور يعيش ويتنفس أفكاره فقط، ولا يرى غيرها، حتى لو كانت خرافية، جوزيف ستالين كان يعتقد أنه سوف يبني المجتمع الصناعي ويهزم الرأسمالية، ملالي طهران اعتقدوا أنهم سوف يهزمون (الشيطان الأكبر) وينقذون المستضعفين، ويبسطون هيمنهم على الآخرين، فانتهوا باسترقاق أبناء جلدتهم!