يبدو أن غينادي غاتيلوف، نائب وزير الخارجية الروسي، سيعود قريباً للعمل في الأمم المتحدة، التي أمضى فيها أطول فترة من سنوات عمله في الدبلوماسية. إذ أكدت وزارة الخارجية الروسية الأنباء حول تعيين غاتيلوف مندوباً دائماً لروسيا لدى مقر الأمم المتحدة والمنظمات الدولية في جنيف، خلفاً للمندوب الحالي أليكسي بورودافكين، الذي يعمل في جنيف منذ عام 2011.
بعد مرور سريع على تاريخ عمله في السلك الدبلوماسي يتضح على الفور أن غينادي غاتيلوف، نائب وزير الخارجية الروسي، دبلوماسي تمرّس وحصل على الخبرة في أوساط «الحرس القديم»؛ فهو ربيب مؤسسة الدبلوماسية السوفياتية، دخل معها ومن خلالها عالم السياسات الكبرى، وعمل في أكثر من موقع حساس ومهم.
وما زال غاتيلوف من الأسماء اللامعة في السلك الدبلوماسي الروسي، علماً بأن البعض يضعه ضمن قائمة «الصقور» في السياسة الروسية، ويقول آخرون: إن العبارات التي ينتقيها للإعلان عن مواقف بلده تحمل في طياتها دوماً أكثر من تفسير، وتبقي الأبواب مفتوحة أمام أكثر من احتمال للتعامل مع القضية موضوع التصريحات؛ ولهذا يصفه آخرون بأنه «دبلوماسي محترف». غير أن هذا لا يسقط عن غاتيلوف صفة الدبلوماسي الحازم في القضايا التي تمس مصالح روسيا.
«رفيق درب» لافروف
المعروف عن غاتيلوف أنه «رفيق درب» وزير الخارجية سيرغي لافروف. فلقد عمل معه بداية عشر سنوات في الأمم المتحدة، ومن ثم انتقل للعمل في موسكو نائباً للافروف، بعد تعيين الأخير وزيراً للخارجية. ويقر غاتيلوف بأنه تعلم الكثير من لافروف، ويقول أيضاً إنه يفضّل العمل في الخارجية الروسية، مقارنة مع عمله في الأمم المتحدة.
الشائعات كانت قد ترددت منذ نهاية صيف العام الماضي حول تكليف غاتيلوف هذا المنصب الجديد. واتضح الأمر بصورة نهائية في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حين أعلن «مجلس الدوما» (مجلس النواب من البرلمان الروسي) عن جلسة للنظر في تقدم غاتيلوف من جانب وزارة الخارجية الروسية مرشحاً لتمثيل بلاده لدى المنظمات الدولية في جنيف. وفي 23 نوفمبر أعلنت لجنة الشؤون الدولية في «الدوما» عن موافقتها على تعيينه في المنصب. وبعد أسبوعين تقريباً، وتحديداً يوم 13 ديسمبر (كانون الأول) الماضي أعلنت لجنة الشؤون الدولية في «مجلس الاتحاد» (مجلس الشيوخ من البرلمان الروسي) موافقتها كذلك على التعيين. وهكذا، بعد موافقة البرلمان بمجلسيه بات القرار النهائي بيد الكرملين؛ إذ يفترض بموجب الدستور الروسي، أن يعلن الرئيس كذلك موافقته على مرشح وزارة الخارجية ليصبح قرار التعيين سارياً، وأن يصدِر مرسوماً ينص على تعيين غاتيلوف مندوباً لروسيا في جنيف، وأن يعفي في مرسوم آخر المندوب الحالي، أليكسي بورودافكين من مهامه، وربما يكلفه بمهام أخرى في مرسوم ثالث.
خبرة واسعة متراكمة
ويرجح أن اختيار غاتيلوف دون غيره لشغل منصب ممثل روسيا لدى الأمم المتحدة في جنيف، يعود إلى الخبرة الواسعة التي تراكمت لديه في العمل باسم بلاده مع المؤسسات الدولية خلال سنوات طويلة من عمله في الدبلوماسية، السوفياتية بداية، ومن ثم الروسية، وكذلك إلى معرفته الواسعة بالقضايا الرئيسية التي تشغل المجتمع الدولي حالياً، وفي مقدمتها الوضع في الشرق الأوسط، فضلاً عن المسائل المتعلقة بإصلاحات مؤسساتية في المنظمة الدولية.
ولد غينادي غاتيلوف في 25 أغسطس (آب) عام 1950، وحصل على أسس الخبرة في العملين السياسي والدبلوماسي خلال سنوات دراسته في جامعة موسكو الحكومية للعلاقات الدولية، التي كانت تابعة حينها للخارجية السوفياتية، والآن للخارجية الروسية، وأنهى الدراسة فيها عام 1972، وهو يتقن اللغتين العربية والإنجليزية، بجانب الروسية. وفور تخرجه في الجامعة التحق للعمل بالسلك الدبلوماسي، حيث أوفد بداية إلى السفارة السوفياتية في القاهرة، وعمل هناك بصفة مستشار ثالث للسفارة حتى عام 1977.
ومن ثم، عمل حتى عام 1980 سكرتيراً ثالثاً في قسم المنظمات الدولية في وزارة الخارجية السوفياتية. وعاد بعدها مجدداً إلى الشرق الأوسط، حيث عيّن سكرتيراً ثالثاً، ثم ثانياً للسفارة السوفياتية في العاصمة الأردنية عمّان، وبقي هناك حتى عام 1984، وهذا يعني أنه عاصر حربَي عام 1973 وعام 1982 خلال عمله الدبلوماسي في الشرق الأوسط.
ومن عمّان عاد غاتيلوف إلى موسكو ليشغل بداية وظيفة السكرتير الأول في دائرة الخارجية الروسية للمنظمات الدولية، ومن ثم مستشاراً، وخبيراً، وأخيراً تم تعيينه مديراً للدائرة.
عام تحوّل لافت
وكان 1992 عام التحول في وجهة عمل غاتيلوف؛ إذ جرى تكليفه حينها للمرة الأولى بعمل في الأمم المتحدة، وأوفدته الخارجية الروسية ليقوم بمهام مستشار مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة، وواصل مهامه هناك حتى عام 1997.
بعد ذلك، غاب عن نيويورك مؤقتاً؛ إذ عمل منذ عام 1997 ولغاية 1999 في دائرة المنظمات الدولية في الخارجية، وعاد بعدها مجدداً للعمل في الأمم المتحدة نائباً أول لمندوب روسيا الدائم حتى عام 2004، ومن ثم كبير المستشارين في مكتب الأمين العام للأمم المتحدة منذ عام 2004 وحتى عام 2008.
ويرجّح المطلعون أن العلاقة بين غاتيلوف ولافروف نشأت منذ عملهما معاُ في الخارجية الروسية، حيث عمل لافروف كذلك في دائرة المنظمات الدولية، وتوطدت العلاقة خلال عملهما معاً في الأمم المتحدة، حيث شغل لافروف منصب مندوب روسيا الدائم منذ عام 1994 وحتى عام 2004.
منذ عام 2011 يشغل غينادي غاتيلوف منصب نائب وزير الخارجية الروسي، وهو يشرف بحكم موقعه هذا على طيف واسع من الملفات في الخارجية الروسية، وبصورة خاصة في مجال الدبلوماسية المتعددة الجوانب المرتبطة بمشاركة روسيا في الأمم المتحدة، وفي المنظمات الفرعية المتخصصة في مسائل التعاون الدولي الاقتصادي والبيئي والإنساني، وحقوق الإنسان. كذلك، يعمل غاتيلوف على الملفات المتصلة بمسائل وقضايا اليونيسكو، والتعاون بين الدول في مجالات الرياضة والسياحة والثقافة.
الأزمة السورية
وكحال غالبية نواب وزير الخارجية الروسي، برز اسم غينادي غاتيلوف وأصبح معروفاً لدى الرأي العام بصورة واسعة جداً، خلال الأزمة السورية، وبصورة خاصة، بعد إعلان روسيا تدخلها العسكري هناك. إذ أصبح اسمه يتكرر كثيراً في نشرات الأخبار وفي الصحف، التي تولي اهتماماً كبيراً وخاصاً لكل ما يتعلق بالأزمة السورية؛ نظراً لحجم تلك الأزمة وتأثيرها على الوضعين الإقليمي والدولي.
هذا، وشارك غاتيلوف في المفاوضات الخاصة بتسوية الأزمة السورية، وترأس الوفد الروسي إلى عدد من جولات المفاوضات في جنيف، حيث كان يجري مشاورات مع وفد النظام السوري بصورة خاصة، وكذلك مع المبعوث الدولي، وفي بعض الأحيان مع وفد المعارضة؛ وذلك بهدف الاطلاع على المواقف وتقديم اقتراحات لتجاوز العقبات التي تواجهها المفاوضات.
ويرى مراقبون أن تعيين غاتيلوف للقيام بمهام مندوب روسيا الدائم لدى مقر الأمم المتحدة في جنيف، ربما جاء لتعزيز الموقف الروسي في المفاوضات حول تسوية الأزمة السورية، التي أصبحت بمثابة محرك رئيسي وورقة أساسية، في السياسة الخارجية الروسية.
فالواقع أن الملف السوري اكتسب أهمية خاصة بالنسبة لروسيا منذ أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من الأمم المتحدة خريف عام 2015 عن إرسال قوات روسية إلى سوريا. وتحاول روسيا حالياً إطلاق أكثر من مسار برعايتها لتسوية الأزمة هناك، مع أنها تؤكد دوماً على مرجعية جنيف. وهذا يعني أن مهام كثيرة هناك، متصلة بالأزمة السورية، بانتظار غاتيلوف، الذي يتميز عن المندوب الحالي بورودافكين بعلاقات قديمة مع الأطراف الرئيسية المنخرطة في التسوية السورية، مثل مصر والأردن، فضلاً عن معرفته واطلاعه على تفاصيل وآليات عمل الأمم المتحدة ومبعوثها الخاص ستيفان دي ميستورا. والأهم أن غاتيلوف مطلّع بصورة أدق، ومشارك إلى حد بعيد، وفق ما تقول مصادر، في صياغة تفاصيل موقف بلاده وخلفية وأهداف ذلك الموقف من الأزمة السورية.
في السياق نفسه، معروف أن غاتيلوف انخرط منذ الأيام الأولى في النشاط السياسي الروسي حول الأزمة السورية؛ الأمر الذي يعزز فرضية أن حاجة موسكو إلى تقوية مشاركتها ودورها في المفاوضات السورية في جنيف، لعبت دوراً حاسماً في تعيينه مندوباً دائماً لدى مقر الأمم المتحدة هناك. وحقاً، يظهر اهتمام غاتيلوف ونشاطه على المحور السوري عبر أكثر من موقف، بينها أنه كرّس مساحة خاصة على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي «تويتر» ليكتب «تغريدات» يعبر فيها عن مواقف موسكو من التطورات حول التسوية السورية.
على سبيل المثال، كتب غاتيلوف في «تغريدة» على «تويتر» خريف عام 2012، أي عندما كان الأخضر الإبراهيمي مبعوثاً دولياً إلى الأزمة السورية، أنه «لا بديل عن خطة كوفي عنان وبيان جنيف – 1، إذا كنا نريد أن نتوصل لبدء الحوار السياسي حول سوريا». وقبل ذلك أعلن عبر «تغريدة» رفض موسكو الاقتراح بنقل التصويت على مشروع قرار حول التسوية السورية من مجلس الأمن إلى الجمعية العمومية للأمم المتحدة. وحذر في «تغريدة» أخرى من خطة غربية للتدخل في النزاع السوري، وكتب حينها إن «أي خطوات أحادية الجانب ستبعدنا عن التسوية السياسية للأزمة السورية». وما زال غاتيلوف حتى يومنا هذا واحداً من أكثر الدبلوماسيين الروس نشاطاً على المحور السوري، وجرت العادة أن يترأس وفد بلاده للمشاركة في معظم جولات المفاوضات في جنيف.
انطباعاته عن لافروف
إلى جانب ذلك، هناك خبرة العمل في المحافل الدولية، ولا سيما خلال فترة عمله في الأمم المتحدة إلى جانب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف. وكان غاتيلوف تحدث عن تلك المرحلة، وقال في حوار نشرته وكالة «إنتر فاكس»، إنه واجه الكثير من المواقف الحساسة، التي ما زالت محفورة في الذاكرة، وأشار إلى أن أكثرها أهمية بالنسبة له، كان الموقف حين اضطر إلى استخدام «الفيتو» باسم روسيا في مجلس الأمن، خلال تصويت ربيع عام 2004 على خطة غربية لتسوية الأزمة القبرصية. وقال موضحاً إن «تلك اللحظة كانت غاية في الأهمية بالنسبة لي؛ لأنني شعرت بحجم كبير من المسؤولية، بينما كنت الوحيد في صالة مجلس الأمن الذي استخدم الفيتو».
من ناحية أخرى، قال غاتيلوف في ذلك الحوار إنه لم يسعَ شخصياً للانتقال والعمل في الأمم المتحدة، وإن نقله إلى هناك كان مفاجأة. ويضيف إنه عمل في المنظمة الدولية مع أكثر من مندوب لروسيا، منهم يوري فورونتسوف، ومن ثم عمل 10 سنوات في نيويورك مع سيرغي لافروف. وأشار إلى أنه عاد للعمل في موسكو بعد تعيين لافروف وزيراً للخارجية.
ويصف غاتيلوف العمل طيلة كل تلك السنوات مع لافروف بأنه سهل ومثير، مضيفاً: «لافروف دبلوماسي ماهر، مطلع تماماً على جميع القضايا التي جرى بحثها والتصويت عليها في الأمم المتحدة، ومجلس الأمن»، وتابع: «لقد تعلمت منه الكثير فيما يخص إدارة المحادثات مع الشركاء، وكذلك المعالجة الدقيقة لنصوص مشاريع القرارات التي يجري طرحها للنقاش على مجلس الأمن».
وتوقف غاتيلوف بصورة خاصة عند مرحلة عمله مع لافروف في الأمم المتحدة إبان الحرب الأميركية على العراق، ويصفها بأنها مرحلة معقدة للغاية، لافتاً إلى أن مجلس الأمن صوّت خلالها على نحو 60 مشروع قرار، بينها قرارات معقدة جداً، ولا سيما تلك التي جرى نقاشها في مرحلة ما بعد دخول القوات الأميركية الأراضي العراقية عام 2003.