توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

صدمة التراث الأسطوري

في الموقف من الفلسفة ومدى تأثيرها في تشكيل المفاهيم الدينية، انقسمت المدرسة الدينية الشيعية إلى فريقين: فريق اعتبر الفلسفة تهويماً في عوالم بعيدة عن الطبيعة المباشرة والبسيطة للنص، وفريق اعتبر العقل شريكاً للنص في إدراك الحقيقة المركبة والمعقدة للوجود.
ما زال الجانب الأعظم من نقاشات الفلسفة الدينية التقليدية، يدور في إطار الرؤى التي وضعها صدر الدين الشيرازي أو الملا صدرا (1571 - 1640م)، ولا سيما في كتابه الشهير «الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة». وقد كرّس كتابه لتجسير الفجوة بين مقولات الفلسفة اليونانية، والمفاهيم التي تطورت في الإطار المعرفي الإسلامي، خصوصاً تلك التي تبدو متعارضة مع التفسير المادي للعالم.
نشر علماء كثيرون شروحاً على الكتاب، أبرزها حاشية الملا هادي السبزواري، المتوفى في 1873م.
في حديثه عن نعم الله على عباده، ذكر الشيرازي خلق الحيوانات: «وبعضها للأكل... وبعضها للركوب والزينة... وبعضها للنكاح». ويستفاد من العبارة أن هناك إشارة إلى النساء وإقحام لهن. واستدل عليها بالآية المباركة: «والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً». وعلق السبزواري على هذا بقوله: «إدراجها في (هذا السلك) إيماء لطيف إلى أن النساء، لضعف عقولهن وجمودهن على إدراك الجزئيات ورغبتهن إلى زخارف الدنيا... ولكن كساهن صورة الإنسان، لئلا يشمئز عن صحبتهن.... ومن هنا غلب في شرعنا المطهر جانب الرجال وسلطهم عليهن في كثير من الأحكام».
تذكرت هذا النص وأنا أقرأ مقالاً للدكتور إبراهيم المطرودي (الرياض 3 أبريل/ نيسان 2013) نقل فيه نصاً مماثلاً للمفسر الشهير الفخر الرازي، في تفسير الآية «خلق لكم من أنفسكم أزواجاً»، حيث اعتبرها دليلاً على أن «النساء خلقن كخلق الدواب والنبات... خلق النساء من النعم علينا، وخلقهن لنا، وتكليفهن لإتمام النعمة علينا، لا لتوجيه التكليف نحوهن مثل توجيهه إلينا... لأن المرأة ضعيفة الخلق......».
ويستدرك المطرودي أن الرازي «يسحب ثقافته التي كوّنها عن المرأة بنفسه أو شاعت في زمانه، ويجعلها جزءاً من النص الديني، فتتحوّل بفعله الكتابي التفسيري من موقف شخصي أو ثقافي اجتماعي إلى معنى ديني، يجد سنده في النص الديني نفسه، ويصبح بعد ذلك جزءاً منه».
مضت قرون منذ كتب الأعلام الثلاثة تلك الكتب، وتوالى عليها علماء كثيرون بالقراءة والشرح والتدريس. لكن أحداً من هؤلاء - فيما نعلم - لم يوجه نقداً لمثل المقولات المذكورة أعلاه. وهي للمناسبة متكررة بصيغ شتى عند فقهاء ومحدثين آخرين.
صحيح أن فقهاء اليوم ما عادوا يكتبون أشياء كهذه. وصحيح أيضاً أن المئات ممن قرأوها طيلة القرون الماضية لم يتعرضوا لها بالنقد، ولم يقولوا إنها بعيدة عن روح الدين، غريبة على الذوق الإنساني السليم.
أعلم أن بعض الناس سيشعر بالصدمة حين يقرأ تلك النصوص. وبعضهم سيقول إن «لكل فارس كبوة» ولا يؤاخذ عالم بهنة هنا أو هناك. لكن ما يهمنا بيانه هو أن تلك الأقوال نتاج لثقافة سادت في زمن، ثم جرى تثبيتها وتمريرها عبر الأزمان، فباتت جزءاً من تكويننا الثقافي ورؤيتنا للعالم حولنا. إن رؤيتنا المشوشة للطبيعة الإنسانية، وحقوق الإنسان، وحرية الاعتقاد والتفكير، والمساواة، ومواقفنا في حالات الخلاف والاختلاف، متأثرة بعمق بذلك النوع من الموروث الثقافي الذي استوعب قدراً غير قليل من التصورات الأسطورية، وأعاد إنتاجها جزءاً من الرؤية الدينية للعالم.