أمل عبد العزيز الهزاني
أستاذة في جامعة الملك سعود في السعودية. باحثة في علوم الوراثة الجزيئية. خبيرة في الإدارة الأكاديمية. كاتبة سياسية منذ عام 2009. كاتبة مقال أسبوعي في «الشرق الأوسط».
TT

السفينة القنبلة

مع شعور بالارتياح ترافق مع المحاولة الأممية للتوفيق بين المجموعات السياسية الليبية، وفق اتفاق الصخيرات، يأمل الليبيون أن يكون هذا الاتفاق حجر أساس لعملية سياسية تشمل استفتاء على دستور ليبي جديد، ومن ثم إجراء انتخابات رئاسية ونيابية بإشراف أممي. وهي خطوات إيجابية تشي بالتفاؤل، وإن كانت لا تزال قيد النقاش. لكن الليبيين في الوقت ذاته يشهدون فصلاً جديداً من المقاومة والدفع بالإرهاب خارج أراضيهم، ويتابعون بترقب شديد حالة من التواطؤ تحاصرهم من الشمال والجنوب؛ تدفق للمسلحين الإرهابيين، والسلاح، عبر الموانئ الشمالية والشريط الحدودي الجنوبي مع السودان والشرقي مع مصر.
بعيد سقوط نظام العقيد القذافي، فُتحت مستودعات الأسلحة وكأنما فتح باب للجحيم؛ كانت ليبيا مصدراً للسلاح إلى خارجها، وشكلت تهديداً لدول الجوار؛ مصر وتونس وتشاد، ونفذت عمليات مسلحة خاصة في مصر، ثبت أنها بسلاح جيء به من ليبيا. اليوم نحن أمام حالة عكسية، ليبيا مورد للسلاح من الخارج، مما يثبت ما نعلمه، ويؤكد قناعات سابقة بأن ليبيا هي آخر مطبخ لاستقبال الإرهابيين الفارين من سوريا والعراق بعد التضييق عليهم، وما يقال بأنه تم القضاء على «داعش» في العراق وسوريا، هو في الحقيقة تفريق وإزاحة لهم جغرافياً، وليس القضاء الفعلي عليهم، وممكن ليدٍ ترعاهم أن تعيد لم شملهم، فهم حرفياً، ليسوا «فص ملح» ليذوب وينتهي.
ليبيا تواجه مؤامرة إقليمية لإعادة بناء شبكة مسلحة تؤخر الحل السياسي، وتمكّن للجماعات المسلحة التابعة لتنظيم الإخوان المسلمين، وتعوض عن خسائرهم التي منوا بها من الجيش الوطني الليبي. يؤكد ذلك ما ذهبت إليه الأنباء بأن خفر السواحل اليوناني احتجز سفينة «إندروميدا» المحملة بمواد أولية لتصنيع المتفجرات والألغام بحمولة تزن 410 أطنان! انطلقت من ميناء مرسين التركي متجهة إلى ميناء مصراتة في ليبيا. الحدث أحرج تركيا، وجعلها في موقف دفاع، وأكدت عبر سفارتها أن السفينة المستأجرة والتي تحمل علم تنزانيا كانت محملة ببضاعة تركية قاصدة إثيوبيا جنوباً عبر قناة السويس، وليس غرباً إلى ليبيا. لكن المحققين اليونانيين ذكروا أن طاقم السفينة أكدوا أن أوامر جاءتهم لتغيير مسار السفينة إلى مصراتة، وأنه لا يوجد على السفينة أي وثائق أو خرائط تدل على السير باتجاه إثيوبيا. تركيا تبدو في موقف صعب، خصوصاً أنها ليست المرة الأولى التي تنطلق فيها حمولة أسلحة من موانئ تركية إلى موانئ شرق ليبيا، لكن الفارق اليوم أن الشخصيات العسكرية والسياسية الليبية أصبحت أكثر إدراكاً وأشد بأساً بسبب ما أحرزوه من انتصارات عسكرية على الأرض، وتحريرهم لمناطق كانت تحت هيمنة مسلحين محسوبين على «داعش» و«الإخوان المسلمين»، فقويت شوكتهم ولن يتوانوا عن التصعيد، خصوصاً بعد أن أكد المبعوث الأممي إلى ليبيا الدكتور غسان سلامة أن تحقيقاً أممياً سيطال القضية.
وقضية السفينة القنبلة لا تقف عند ليبيا فقط، مصر مثلاً ترى أن حصة كبيرة من التهديد الأمني ستطالها بسبب سهولة تمرير السلاح عبر الحدود، وأن من حقها تدويل هذه القضية، وطلب تحقيق دولي يوضح دور ما أصبح يُسمى المحور التركي - القطري - السوداني لزعزعة أمنها، ومحاصرة ليبيا وإعادتها إلى المراحل الأولى من حرب الشوارع، وتعضيد حزب النهضة التونسي في مرحلة مرتبكة كالتي يمر بها اليوم بعد أن اتضح أن النموذج التونسي الذي كنا نظنه ناجحاً بعد ثورات 2011 بدا كبناء فوق طبقة رقيقة من الجليد.
السؤال العابر في هذا التوقيت؛ ما الذي يجمع الأطراف الثلاثة: تركيا - قطر – السودان ضد ليبيا ومصر وتونس؟ وهل حقاً هناك مؤامرة أم مجرد تكهنات؟
حادثة السفينة المحتجزة اليوم على ساحل جزيرة يونانية، إثبات جديد على أن لتركيا يداً في تمويل العمليات في ليبيا، وما نسميه نحن إرهاباً يسمونه دعماً لجماعتهم، خصوصاً ميليشيا «ثوار بنغازي»، وكان موثقاً كيف أن جرحى المعارك من «الإخوان المسلمين» ينقلون للعلاج في مشافٍ تركية، عياناً بياناً. واليوم مع تصعيد قضية حمولة الأسلحة، على تركيا أن تفكر في تبرير أكثر إقناعاً حول الشحنات المرسلة إلى ليبيا خلال السنوات الست الماضية.
بالنسبة للسودان، فرئيسها عمر البشير مد يده لتعاون تركي مفتوح خلال زيارة الرئيس إردوغان الأخيرة للخرطوم. عمر البشير رجل براغماتي، لكن يبدو أن حكومته ليست بعيدة النظر. الموقف القطري من ليبيا قديم، فبعد أن ربطهم تعاون مع نظام العقيد القذافي لاغتيال الملك عبد الله بن عبد العزيز، رحمه الله، ومحاولات زعزعة أمن المملكة العربية السعودية، غدروا به وقتلوه، ثم أحكموا سيطرتهم على ليبيا بوضع اليد. وسيكتب التاريخ الليبي أن ليبيا عانت الأمرّين بعد سقوط القذافي بسبب التدخلات القطرية بالمال والسلاح للاستيلاء على الدولة الوليدة، وإعلاء سلطة ضباع «الإخوان المسلمين» على أرض غنية بالخيرات، وبأبنائها المثقفين والطيبين المتطلعين لحياة جديدة بعد موت الديكتاتور. قطر قتلت آمالهم ووأدت أحلامهم؛ انطلقت طموحاتها من أرض صغيرة في الخليج العربي حتى أواسط شمال أفريقيا لتحيل حياة الليبيين إلى جحيم دام سبعة أعوام.
ولأن أزمة مقاطعة دول الرباعية لقطر لا تزال تؤثر في الوضع الاقتصادي القطري، تحاول الدوحة توفير سيولة عبر بيع سندات وحصص لممتلكات في مدن أوروبية منها لندن. وهذه السيولة ليست لاستمرار توفير مستوى الحياة الكريمة التي يعيشها المواطن القطري، فهذه لم تكن تأخذ من عوائد الغاز الطبيعي شيئاً يذكر. قطر تستنزف أموالها لتنفيذ وتسهيل عملياتها في ليبيا وسوريا والبحرين والسودان، وتنفيذ صفقات لشركات تسويق إعلامية لترقيع صورتها، وشراء سكوت بعض المنظمات والدول عن قرائن وأدلة تثبت تورطها في دعم الإرهاب.. مشابهة في ذلك للنظام الإيراني الذي استهلك موارده خارج حدوده بسبب غرور القوة ونزعة السلطوية.
الوضع الليبي في خطر، ما لم تتحرك القوى الدولية لإنقاذه من مؤامرة تحاك ضد استقراره وأمنه، وتهدد بتقويض جهود غسان سلامة المبعوث الأممي إلى ليبيا.