مشعل السديري
صحافي وكاتب سعودي ساخر، بدأ الكتابة في الصحف السعودية المحلية، ثم في صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، تتميز كتاباته بالسخرية اللاذعة، ويكتب عموداً ثابتاً في «الشرق الأوسط».
TT

شمعة حياتي

يُحكى أن فتاة صغيرة كانت مع والدها يعبران جسراً، فخاف الأب الحنون على ابنته من السقوط، لذلك قال لها: حبيبتي أمسكي بيدي جيداً حتى لا تقعي في النهر.
فأجابت ابنته دون تردد: لا يا أبي أمسك أنت بيدي، فرد الأب باستغراب: وهل هناك فرق؟! كان جواب الفتاة سريعاً: لو أمسكت أنا بيدك قد لا أستطيع التماسك، ومن الممكن أن تتفلت يدي فأسقط، لكن لو أمسكت أنت بيدي فأنت لن تدعها تتفلت منك أبداً.
والذي حصل بيني وبين ابنتي أن كلتا يدينا أفلتت بعضها من بعض قسراً، فطار قلبي من صدري بين السماء والأرض، وانطفأت فجأة شمعة حياتي، وظللت أتخبط في ظلام دامس، لا أعرف شمالها من جنوبها ولا شرقها من غربها، ولولا قليل من الإيمان لطار عقلي.
ولسان حالي كحال تلك الأعرابية التي فقدت ولدها فجأة وهو في ريعان الشباب، وأخذت تنوح وتقول:

ربيته دهراً أفتقه ... في اليسر أغذوه وفي العسر
حتى إذا التأصيل أمكنني ... فيه قبيل تلاحق الشغر
وجعلت من شغفي أنقله ... في الأرض بين تنائف غبر
هربا به والموت يطلبه ... حيث انتويت به ولا أدري
ما كان إلا أن هجعت له ... ورمى فأغفى مطلع الفجر
ورمى الكرى رأسي ومال به ... رمس يساور منه كالسكر

ولم يخطر على بالي ساعتها غير كلارك غيبل في الفيلم الشهير (ذهب مع الريح)، عندما سقطت طفلته من على ظهر فرسها ودق عنقها وماتت، فحملها إلى غرفته وأغلق الباب وظل معها يومين كاملين، رافضاً أن توضع بالتابوت وتقبر، لأنها كانت تخاف من الظلام، وكذلك هي (العنود).
وقررت لو أنني ذهبت إلى باريس، لسوف أذهب من المطار رأساً إلى (معرض القلوب الحزينة)، الذي سبق لي أن زرته، وهو يحوي جميع الهدايا والتذكارات لمن تحطمت قلوبهم وفقدوا الأحباب وفلذات أكبادهم.
وأحمل معي آخر الهدايا التي أتت بها ابنتي لي من إسبانيا قبل شهر، وهي الكولونيا الليمونية التي أتعطر بها (4711)، ومجموعة المراسم (BIC) التي أكتب بها، وصورتها عندما كان عمرها سنة ونصف السنة، والتي أشاهدها أمامي على مكتبي، وأضعها كلها في ذلك المعرض، مع البقية الباقية من دموعي.
إنني أصبحت مثل ذلك الذي أصيب بالشلل الرباعي، وظل طريح الفراش لا يتحرك، وكلما عاده زواره، يقول لهم: إنني لا أريد أن أمشي وأتحرك مثلكم، كل ما أريده فقط هو أن أستطيع إلصاق جبهتي على الأرض وأسجد.
فمتى أستطيع، متى؟!