طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

أرجوكم لا تحرقوا أفلامي!

فجأةً وجَد عزت أبو عوف نفسه متهماً بأنه يحرِّم الفن، وذلك بعد أن تم تفسير كلمه له ألقاها بعد حصوله على التكريم من إحدى الجمعيات؛ قال الرجل: «أنا سعيد بتكريمي وأنا معكم على قيد الحياة، ما الذي يفيد الفنان بتكريمه بعد الرحيل؟! من حقكم بعد موتي أن تحرقوا أفلامي».
كان يقصد إذا كانت أفلامي لا تُعجِبكم فلا تكرموني وتجاهلوها بعد موتي، وهذا طبعاً على سبيل الاستبعاد، لقد احتاج الأمر من عزت أبو عوف إلى أن يوضِّح على صفحته، وفي أكثر من حوار، ما قصده بتعبير «بعد موتي أحرقوها».
الحقيقة أن حرق الأفلام ظاهرة قديمة، وإن اختلفت الأسباب، مثلاً عام 1935 فعلتها فنانة المسرح فاطمة رشدي، التي أطلقوا عليها من فرط نجاحها «سارة برنار الشرق»، كما أنها كانت تُلقَّب بـ«صديقة الطلَبَة»، لأنها تفتح مسرحها مجاناً لهم يوماً كل أسبوع، إلا أنها بعد أن شاهدت فيلمها «الزواج»، الذي لم تكتفِ فقط ببطولته ولكنها أيضاً أخرجته، لم يعجبها فأحرقته.
أتذكر أنني التقيتها في مطلع التسعينات وسألتها؟ قالت لي: «يا ليتني ما أقدمتُ على ذلك، كان الزمن وقتها أمامي وتصورتُ أنني سأقدِّم بعده كثيراً من الأفلام، ولم أدرك أن الأيام لا تعود».
ولدينا حسين صدقي، وكان نجماً شهيراً، كتب للسينما ولعب بطولة العديد من الأفلام، مثل «العزيمة»، ويُعدّ واحداً من أهم أفلام السينما ويؤرَّخ باعتباره أول الأفلام الواقعية عربياً، ومن أفلامه الشهيرة أيضاً «شاطئ الغرام»، الذي لعب بطولته أمام ليلى مراد. عندما بدأ حسين صدقي مرحلة التزمُّت الديني قرَّر حرق أفلامه، تلك التي كتبها وأخرجها وأنتجها، أما الأفلام الأخرى فلم يتمكن منها، أيضاً شمس البارودي كتبَتْ مرة إعلاناً في مطلع التسعينات تقول إنها على استعداد لكي تشتري أفلامها لتحرقها، حكى لي ذلك المخرج صلاح أبو سيف الذي قدم لها الفيلم الشهير «حمام الملاطيلي»، ووضعته على قائمة الأفلام المطلوب إعدامها، ومع أن الفيلم يتصدره اسم أبو سيف مخرجاً ومنتجاً، فإنه أخبر شمس البارودي بأنه كان قد باع كل الحقوق المادية، ولا يملك هذا القرار.
سهير رمزي أيضاً اعترضت على أشهر أفلامها «المذنبون» المأخوذ عن رواية لنجيب محفوظ، وطالبَتْ بإحراقه، ولكنها بالطبع لا تملك الفيلم.
بعض الفنانين يسقطون أدواراً أو أفلاماً من تاريخهم، إلا أن مسألة الحرق تظل في الواقع شائكة جدّاً، لأن للآخرين حقوقاً أدبية حتى لو لم تكن مادية بالضرورة، فما ذنب من شاركوا مثلاً شمس أو سهير أو حسين التمثيل؟!
ويبقى الأهمّ، وهو حق الجمهور الذي أحب عملاً فنيّاً، ووجد الفنان يريد حرقه، لا شك أنه في تلك اللحظة لن يستطيع مشاهدته بحياد.
شادية هي أكثر الفنانين المعتزلين اعتدالاً في هذا الشأن، فلقد توقَّفَت على مدى تجاوز 30 عاماً، لكنها لم تتبرَّأ طوال حياتها من أي عمل فني، وحرص الورثة تنفيذاً لرغبتها على أن ينشروا صورتها أمام سرادق العزاء، وكتبوا تحتها «الفنانة شادية».
عزت أبو عوف مثل كل الفنانين ليس راضياً عن كل ما قدَّمه، ولكن التخلُّص من المصنَّف الفني مسألة أخرى، فهو لا شك ترك بصمة في المساحة التي أتيحت له كممثل وأيضاً كمغنٍّ وملحن من خلال فرقة «الفور إم»، التي كوَّنها مع شقيقاته اللاتي تبدأ أسماؤهن بحرف الميم، وهو يعلم جيداً أن الفن الجيد يعيش مع الزمن، ويتحدى كل عوامل الفناء والاحتراق.