إميل أمين
كاتب مصري
TT

لحظة تاريخية أوروبية

بعد أسبوع شرق أوسطي حافل بالزيارات، وفي ظل إحباط من نتائج زيارة مايك بنس نائب الرئيس الأميركي، بات السؤال: هل يحل الأوروبيون محل الأميركيين كبديل في الشرق الأوسط؟
بداية ومنذ اتفاقية «كامب ديفيد» بين مصر وإسرائيل في نهاية سبعينات القرن المنصرم، أخفقت واشنطن في تحقيق أي صفقة سلام أو إحداث تقارب بين العرب والإسرائيليين عامة، وبين الفلسطينيين والإسرائيليين خاصة.
يبدو لكثيرين أن نائب الرئيس الأميركي عمّق الخلاف ووسع الهوة بين الجانبين، ولم يروا زيارة لرجل سياسة؛ بل «حاج» يقوم بأداء فروض دينية تتسق وتوجهاته اليمينية الإنجيلية المحافظة، هذا التيار الذي يتعاظم مده منذ مجيء الرئيس ترمب إلى السلطة في 2016.
على أن الحديث عن الأوروبيين، وهل لهم أن يحلوا بالمطلق محل الأميركيين، يتقاطع مع عقبات عدة؛ منها أن واشنطن لا تزال «الأول» بين متقدمين، ولا تزال «الفاعل النشط الأكبر» حول العالم على كافة الأصعدة، وهو ما يقر به الأوروبيون بالفعل، ومع ذلك فإنهم الأقرب جغرافياً وديموغرافياً من العالمين العربي والإسلامي، بل إنهم تاريخياً الأكثر تأثيراً بالمد والجذب الذي عاشه النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي، لا سيما ما وقع على الأراضي الأوروبية في سبعينات القرن الماضي، ولهذا يكاد المرء أن يقرر أنهم مدفوعون بوازع تاريخي براغماتي، ترتبط به درجة الأمن في بلادهم، والسلام في ربوع بلدانهم.
أظهرت دول الاتحاد الأوروبي موقفاً واضحاً من قرار الرئيس الأميركي الأخير الذي فاقم القلق من سياساته الخارجية العشوائية في مجملها، التي أثرت - ولا شك - سلباً على منظومة القيم التي تحكم العلاقات بين شاطئي المحيط الأطلسي، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وزاد الخلاف القرار الأميركي الخاص بتجميد المساعدات الموجهة لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين.
غير أن ردات فعل الأوروبيين تظهر مدى مقدرتهم على الفعل الخلاق من عدمه، ومدى إمكانية العالم العربي - الفلسطيني في الاستغناء عن الدور الأميركي والاستعاضة عنه بالأوروبي، فقد أوضحت فيديريكا موغيريني منسقة السياسات الخارجية للاتحاد الأوروبي بالقول: «إن الاتحاد الأوروبي ينتظر أن تفي الولايات المتحدة بتعهداتها تجاه الفلسطينيين؛ خاصة أنه - أي الاتحاد - لا يمكنه التدخل من أجل مد الفلسطينيين بالمساعدات المالية عوضاً عن واشنطن».
يعن لنا التساؤل: «إذا كان الأوروبيون غير قادرين على تعويض الفلسطينيين بحفنة دولارات أميركية، فهل يجدر بالأخيرين الاعتماد عليهم في حل مطلق للقضية؟».
والشاهد أنه على الرغم من الخلاف الواضح بين جانبي الأطلسي حول المسألة الفلسطينية، فإن آمال محمود عباس في انتزاع اعتراف أوروبي موحد بدولة فلسطينية مستقلة لا تزال غير واضحة المعالم، والدليل تباين المواقف ما بين الفرنسيين والألمان، فوزير الخارجية الفرنسي لودريان يتطلع إلى الارتقاء بالعلاقات مع الفلسطينيين من «الاتفاقية الانتقالية إلى اتفاقية الشراكة»، بينما نظيره الألماني لا يزال موقفه متذبذباً وغير قادر على بلورة طرح مستقبلي لعلاقة الطرفين الشرق أوسطيين.
ما الذي يمكن للجانب الفلسطيني فعله؟
متطوعاً استمعنا الأيام الماضية إلى وزير الخارجية الأميركي السابق جون كيري، موجهاً حديثه إلى الرئيس محمود عباس ناصحاً إياه بأن «عليه أن يكون قوياً وألا يخضع للرئيس ترمب؛ لأن الأخير لن يصمد فترة طويلة في الحكم»، وعوضاً عن إضاعة الوقت، عليهم - أي الفلسطينيين - بلورة خطة سلام بديلة، تحمل مبادئهم الخاصة بالعملية السلمية.
المثير جداً أن كيري الذي أمضى أربع سنوات في وزارة الخارجية، وفشل في زحزحة التعنت الإسرائيلي، يعرض اليوم على الفلسطينيين المساعدة لحشد الدعم الدولي لهم، عبر ما يصفه باتصالاته وعلاقاته المميزة مع الأوروبيين والعرب، ويضيف عبارة غامضة... ومع «النظام الأميركي العميق».
قد يكون كيري على حق في أن ترمب، لا يمثل النظام الأميركي الظاهر والخفي دفعة واحدة، وليس سراً أن كثيرين اختلفوا مع قرار ترمب، وعندهم أنه يعقد المعقد في الأصل؛ بل ويهدد «الهوية اليهودية» للدولة الإسرائيلية، الأمر الذي يهمهم بأكثر درجة... هل لهذا بدأت تتبلور رؤية فلسطينية جديدة تجاه الولايات المتحدة ودورها المستقبلي في عملية السلام؟
قد يكون من العقلانية عدم معاداة الشعب الأميركي بسبب إدارة ترمب، أو بمعنى أدق «مواقف ترمب» نفسه، ما يعني عدم استبعاد واشنطن دفعة واحدة باعتبارها وسيطاً غير محايد، وربما من الأفضل إدماجها ضمن شراكة دولية، ما يعنى إحياء الرباعية الدولية مرة جديدة، بحيث لا تستأثر واشنطن بالنفوذ الكلي والإجمالي، وهناك رؤية يتم الحديث عنها تتصل بتفعيل دور بقية الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، ما يدمج الصين أيضاً في المستقبل المنظور، وبكل تأكيد يمكن الرهان على الموقف الأدبي والأخلاقي للكرسي البابوي في الفاتيكان الرافض لتهويد القدس، حتى وإن لم يكن البابا يمتلك فرقاً عسكرية كما تندر عليه جوزيف ستالين، إبان مؤتمر يالطا 1945.
وفى كل الأحوال، يمكن القطع بأن اللحظة تاريخية بالنسبة لأوروبا وخياراتها، لا سيما إذا كانت إيجابية وموحدة تجاه الدولة الفلسطينية المستقلة؛ لأنها ستجسر المعابر شرق أوسطياً وبحر أبيض متوسطاً مع العالمين العربي والإسلامي.