سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

خداع القوائم العالمية

ليس مزاحاً أن يتهم رئيس أكبر دولة في العالم صحافة بلاده بأنها كاذبة و«لا تريد أن تنقل الحقيقة ولها أجندتها الخاصة». والحديث هنا عن الولايات المتحدة، أمّ الديمقراطيات وليس عن نيكاراغوا أو غواتيمالا أو بلد مثل لبنان. دونالد ترمب نفسه اتهم قضاء بلاده أيضاً بأنه جائر و«غير عادل»، وبمعنى آخر لا يصدق المواطنين، ولا ينصفهم، وهذا أفظع. وليس بقليل أن توجه اتهامات إلى واحدة من أكبر و«أذكى» شركات العالم بأنها تراوغ زبائنها ببطاريات، تبطئ عمل الهواتف بمرور الوقت ليضطر صاحب الجوال لاستبداله، وأن تقام ضدها دعاوى قضائية وتلجأ شركة «آبل» التي جعلت الناس يصطفون طوابير عند إصدار جديدها - بفضل مصداقيتها وحرفيتها - إلى الإعلان عن تحديث جديد، لتعويض زبائنها عن الأضرار اللاحقة بهم.
والتحقيقات بالاحتيال كثيرة، في حق الشركات التي تدير الكوكب من «فيسبوك» إلى «غوغل» و«أمازون»، حتى يكاد «المواطن الجديد» يشك في نفسه، ويخشى على بطاقته الائتمانية، ومعلوماته التي يودعها كومبيوتره، والتحدث في تليفونه. فما الذي يمنع التجسس على مواطن صغير، بعد أن وقع رؤساء دول كبرى في فخ التنصت؟ ومع أن ألمانيا لم تتمكن من إثبات التهمة على الولايات المتحدة باختراق هاتف رئيسة وزرائها أنجيلا ميركل، إلا أن أميركا اعترفت ضمناً بالتجسس على حلفائها عندما تعهدت عام 2013 - بسبب تسريبات صحافية - بالتخلي عن ممارساتها في التجسس على مؤسسات فرنسية. ولا شيء يؤكد أن أميركا لم تعد الكرّة.
وبقدر ما سهلت وسائل الاتصال الحديثة الكشف عن المعلومات وفضح المستور، بسطت السبل أمام الكذب. ومقابل «ويكيليكس» جوليان أسانج الذي استفاد من التكنولوجيا المتاحة، لينشر غسيلاً سياسيا نتناً، ويتبدى أن الحكومات والزعامات مارست كلها، من كبيرها إلى صغيرها، النفاق على مواطنيها، هناك من استفاد من التقنيات ليمارس المزيد من التضليل.
المستقبل واعد بالعجائب، وما يمارس لا يبقى من دون تأثيرات هائلة على حياة الأفراد؛ فلم يقض على مصداقية الصحافة في العالم سوى جور السلطات السياسية والرأسمالية في استغلال كل مدارس الترويج، لبث الحقائق التي يريدونها عبر الوسائل التي يملكون التأثير عليها، مما أطاح بصحف عاشت عقوداً وأودى بسمعة محطات تلفزيونية استغرقت سنوات طوالاً لتبني مصداقيتها.
وبعد أن تسابقت المجلات على تصنيف الأغنى في العالم، والأجمل على الكوكب والأكثر نفوذاً، ذهبت هيئات مرموقة لترتيب سلم الجامعات التعليمية، وصنفتها بين الأكثر تعليماً، والأقدر على التوظيف، والأجدر بثقة الطلاب، ليتبين أن نصيب التضليل في هذا التصنيفات قد يكون أكبر مما يتوقع البعض. فلوائح أفضل الوجهات السياحية، وأحسن الفنادق وألذّ المأكولات وأشهى المطاعم، تشوبها استفهامات كثيرة، خاصة بعد المفاجأة التي فجرها مؤخراً مدون بريطاني أراد إثبات أن الناس يعيشون في وهم لا نهاية له. واستطاع الكاتب المغمور الذي عمل، بين ما مارس من مهن، مروجاً لمؤسسات تريد أن تصعد على سلالم موقع «تريب أدفايزر» السياحي وغيره، عبر إرسال آراء وهمية. وراقت لأوبا بتلر الفكرة، وتمكن بشراء رقم تليفون وتحديد عنوان، وحجز موقع إنترنتي، من وضع مطعم لا وجود له على لائحة مطاعم «تريب أدفايزر»، وجعله لمدة ستة أشهر أهم مطعم في بريطانيا متقدماً على 18 ألف مطعم في المملكة المتحدة، دون أن يكتشف أحد الخديعة. «السقيفة في داليتش»، وهو اسم المطعم، بحسب ما كان يكتب صاحبه على الموقع لا يستقبل سوى وفق موعد مسبق، ولمن يتصل كانت الإجابة، أن المطعم محجوز لفترة طويلة مقبلة.
هذا لا يعني أن كل التصنيفات التي تنهال علينا يومياً كاذبة، بقدر ما يستدعي الشك والتساؤل عن جدية هذه الموضة التي تصعد بأسماء وتهبط بأخرى بسرعة البرق. ولا داعي للحديث عن الأسماء العربية التي قرأنا عن مدى جاذبيتها في السنوات الماضية وعمق تأثيرها، وقلة من سمعوا عنها، وكيف تبخرت مع الريح. اللوائح الأخيرة، وهي عديدة، بينها عالمي فيها عرب، أو تخص منطقتنا وحدها.
الاحترام كبير لكل الأسماء التي ترد، وهي لا تشبه في شيء المطعم المختلق برمته، لكن بعضها يوحي بأن ثمة مبالغة أو استنسابية. فكيف تكون الشخصيات التي صنفها موقع «غلوبال إنفلونس» السويسري صحيحة في ترتيبها وأهمية تأثيرها، إذا كان أكثر من نصفها غير معروفة إلا في محيطها الضيق، وبينها من غاب ذكره منذ زمن. ومرة أخرى وكما حال كل القوائم فإنها تعتمد على برمجيات وتطبيقات لا نفهم كيف تدار ولا وفق أي معايير. والقوائم صارت من النشاط بحيث إنها تهتم بكل شعب ولون، وتحدد لكل أمة شخصياتها والمؤثرين فيها، وربما في المستقبل تتنبأ للأمم بزعاماتها. والسؤال حول القائمة السويسرية، وهي شبيهة ببقية القوائم الأخرى، لماذا تخلط بين أهل الفن والسياسيين ورجال الدين والإعلاميين والأدباء، حتى لا نعرف عما تتكلم القائمة، وكيف يقارن بين هؤلاء؟
وسبق لـ«الشرق الأوسط» أن أجرت تحقيقاً حول جائزة أميركية نشر في الصحف وعلى مساحات كبيرة، أنها أعطيت لخمس كاتبات عربيات شهيرات كانت بينهن الراحلتان الموهوبة الجريئة فاطمة المرنيسي والبديعة رضوى عاشور، وكذلك الكبيرة غادة السمان. وقام الزميل محمد علي صالح بجهد كبير في واشنطن، ليتبين أن لا أصل للمنظمة التي أعلنت عن الجائزة ولا عنوان، وأن الموقع الذي أشير إليه لم يعد موجوداً والجائزة كلها وهم خالص. كان ذلك عام 2005 والإنترنت لا يزال وليداً، فماذا عن «تسونامي» التكريمات والتصنيفات والتبجيلات التي تنهال علينا اليوم؟ وما مدى صحتها؟ ولماذا لا يجرؤ أحد على طرح السؤال؟